الاثنين، 14 نوفمبر 2011

نحن شعب غير سعيد


خطر لي وانا اقود سيارتي في احد الصباحات والطريق مزدحم آن اتطلع لوجوه الناس – طبعاً الرجال فقط – في تلك السيارات التي تتقافز بعصبية لتتخطى بعظها في صراع محموم على المقدمة ، كثير من تلك الوجوه مهموم ومنكدر ، وقلت في نفسي " نحن في الصباح وإشراقة اليوم مابال الناس واجمين والأجدر بهم السعادة واستقبال الحياة " فحز في نفسي هذا الشعور و جعلت أسأل نفسي ، هل نحن شعب سعيد ؟ ، الح على السؤال طول اليوم ، فإعتمدت على (الشيخ جوجل ) بيض الله وجهه ، في البحث عن إجابة لسؤالي ، فوجدت اننا بمعايير السعادة العالمية متخلفين عن شعوب كثيرة فمرتبتنا في تصنيف معهد ليجاتوم (Legatum) للرفاهية هي المرتبة (٤٩) من تصنيف (١١٠) دول في ذيل القائمة زمبابوي ،- إسرائيل في المرتبة ( ٣٦)- وفي تصنيف جالوب(Gallup) لأكثر البلدان سعادة نحن في المرتب (٥٨) مكرر مع الباكستان من بين (١٥٥) دولة معظمها مكرر المرتبة وخصوصاً في ذيل القائمة. إذا نحن شعب غير سعيد وغير حزين يعني بين بين ، ولكن لماذا نحن شعب كذلك ؟،

بعد أن تأكدت من مرجعية تلك التصنيفات جعلت افكر في سر عدم السعادة لدى هذا الشعب النبيل ، فنحن مهد العرب ومهبط رسالة الإسلام و مصدر الطاقة للعالم ومورد الأموال و البضائع من كل حدب وصوب ، فقررت أن أجتهد في إكتشاف السبب و لم اقم بدراسة إستقصائية او حتى أستئناس برأي الحكماء من الأصدقاء ، وبداء لى أن استشف من ملاحظاتي ومن خبرتي في مسيرة الحياة وطباع الناس في بلدي ، لذا جعلت مصدر إهدار السعادة لدى السعوديين في ثلاث جوانب هي ، ضيق الخيارات ،و ضيق المعيشة ، والخوف من المصير .

فضيق الخيارات تتدرج من محدودية الحرية الشخصية في ممارسة الخيارات المباحة بفعل التقاليد و الأطر الإجتماعية و قسوتها في قسر الفرد وإلزامه بسلوكيات و مثل لا يجد الفرد فيها قيمة ذاتية ، وبين محدودية في الحرية مؤسسة على مفاهيم عقدية ليست بالضرورة محل إتفاق مذهبي آو إجماعي ديني ، و الفرد في كلتا الحالتين يمارس تمرد على القيود التي تحكم خيارته الإجتماعية و السلوكية بصورة واعية اوغير واعية مما يجعله متوتر مشدود البال متأهب لجدال أي موقف وهذا الحالة سائدة لدى الشباب بصورة عامة و لدى من يستشعرون إستئثار فئة محدودة بممارسة رقابة شديدة وميل لفرض نمطية واحدة للحياة و الممارسة الإجتماعية .

اما ضيق المعيشة فيتجلى في جوانب عديدة ، فمعظم الناس محدود الدخل و يجد أن مداخيله تتأكل أمامه بمصاريف مختلفة فهو ملزم بمعيشة آسرته والتي لأسباب أسرية وإجتماعية وربما دينية لا يستطيع أن يحجم عددها فمتوسط ابناء الأسرة السعودية لا يزال مرتفع نسبياً حيث يتراوح بين( ٤-٦ ) ومعظم الآسر السعودية بعائل واحد فمعيار المساهمة الإجتماعية للقادرين على العمل هي (٢٢٪ ) وهي من ادنى النسب في العالم بمعنى أن خمس القادرين على العمل هم من يعمل وهذا لاشك يلقي على عاتق رب الآسرة عباً كبيراً ، وهو مايفسر إتساع دائرة الفقر في المجتمع ، هذا يضاف لإحتكار ملاحظ في العقار ساهم برفع اسعار الأراضي القابلة للسكن لمبالغ لا يطيقها معظم الناس فبات كثير من السعوديين مهموم بإيجاد سكن ملائم لأسرته و فوق ذلك يجد المواطن انه محاصر بصورة متزايدة بمصاريف وفواتير لم يحسب لها حساب ، حتى بات معظم المواطنين يستدين لمواجهة متطلبات آنية ولاشك أن الديون التراكمية للمجتمع باتت تتخطى مائة مليار تحلب البنوك منها فوائد جمة .

والخوف من المصير هو ثالثة الأثافي فعندما كنت مديراً للموارد البشرية في أحد الشركات أجريت إستطلاعاً بين الموظفين حول إمكانية التأمين على الحياة ، فوجدت أن كثير من الموظفين التنفيذيين على وجه الخصوص والذين إستطاعوا أن يرفعوا من مستوى معيشة آسرهم مهموم بهاجس الخوف على مصير أبنائة فيما لو مات او عجز عن العمل ، و الخوف من المصير لايتعلق بالخوف من الموت بل أن الخوف من المصير بعد الموت سائد لدى الأطفال فكثير من الأطفال يبلى ببعض الأساتذة الذين لاينفكون يشعرونهم بأن النار مصيرهم لإن ثوب الطفل طويل او لأنه ضحك في الصلاة في المدرسة أو انه يسمع الأغاني أو يلعب الألعاب الآلكترونية ، وكثير من الوعاظ يذكر النار في موعظته اكثر من ذكر الجنة و رحمة الله اضعاف مضاعفة حتى بلغ في بعض الناس القنوط من رحمة الله والقلق والخوف من المعصية ويجد كثير من أطباء النفس إكتأب لدى كثير من الناس مصدره القنوط من الرحمة والخوف من العذاب .

نعم نحن شعب غير سعيد لأننا نريد أن نتغير ولا نستطيع ، فينتابنا القلق والتوتر و يشتد بعضنا على بعض فهؤلا تجار جشعون وهؤلا موظفون متطلبون و أولئك متطرفون منغلقون و غيرهم ليبراليون غربيون و الجميع يقتات على الجدل و الجدل المضاد و طاسة الوطن تسخن كل يوم حتى أكاد اجزم أنه لابد من وضع ترمومتر يقيس درجة إحتقان بات يلاحظ وهو ينمو ، فلابد من وسيلة لمعالجة هذا الخلل المعيشي ، لقد كان المجتمع متجانساً في الماضي وكانت سعادته اكثر وبات اليوم متصادم وتجانسه آقل ، والحل يكمن في قليل من الرقابة الإجتماعية ومزيدا من الحرية ومزيد من الشعور بأن الحياة لها تجليات عدة والناس لم يعودوا كأسنان المشط .

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

سليمان الحسن في ذكرى وفاته الـ ٥٠



على مسرح الحياة الواسع ، تمر شخصيات تترك أثر في الأحداث التي تغير مجريات الزمن ، وشخصيات آخرى تترك أثر في النفوس يغير تلك النفوس لتساهم في دورها بتغيير الأحداث ، وكثير ما تترك هذه الشخصيات أثر تتردد آصداءه بين الناس على مر الأيام ، ولكن قليل من هؤلاء الناس من ينسحب من الحياة بصمت اخذاً معه اصداء ذلك الآثر ، احد هؤلاء رجلاً عرفته في طفولتي المبكرة ، و رحل قبل أن ابلغ الرابعة من عمري ، ومع ذلك لا زلت احتفظ بذكرى حدثين لي معه ، الأول عندما اعطاني ريالاً ورقياً كترضية ، وكان الريال مكرمشاً ،فرفضته بحجة أن الريال متسخ ، فما كان منه إلا أن اخذ الريال وانحنى على جانب جدول ماء في المزرعه وغسله وأنا اشاهد ثم سار بي حيث جلسنا تحت ظل نخلة ومدد الريال على سعفة نخل ووضعه في الشمس ليجف ونحن ننتظر تحت ذلك الظلال ، والحدث الثاني عندما طلب من والدي احضاري لزيارته وهو على فراش المرض في المستشفى ، دعاني لجانبه ، واخرج تفاحة من الدرج الذي يلي رأسه وقال لي " خذ هذا التفاحه فالطبيب يقول اذا أكلت التفاحة فلن تمرض ابداً ، وأنا اكلت تفاحتي وأخذت هذه منهم لك " فسررت ساعتها ، بأنه لن يمرض ابداً ، وكانت تلك الحادثة آخر عهدي به ، ترك الحياة قانعاً راضياً ، ولكن كان في قرارة نفسه حزن عميق ، فذكرى الأحداث التي شارك صنعها والنفوس التي ذهبت ضحيتها والأخوة و الأصحاب الذي قضوا فيها كانت تعيش في وجدانه ، كان قليل الحديث عن ذلك وإذا سئل عنها قال " كانت حامية وبردها الله ، ونحن الان في نعمة الله لا يغيرها " ، كان كثير العزلة ، حيث يحمل ابريق ماء ويرتقي تلة رملية مقابل مزرعته ، يغرس فيها ويسقي شجيرات الأثل و يقضي جل النهار بين تلك الشجيرات بعيداً عن الناس يجتر الذكريات .

ولد سليمان الحسن عام ١٢٩١هـ وعاش في مخاض الأحداث التي افرزت حركة التوحيد السياسي وتكوين المملكة العربية السعودية ، وكان لوفاة أمه المبكر جداً ، والتي فارقته وهو رضيع أثر في طبيعة نشأته فلازم والده منذ الصغر وشب منصرفاً كوالده لرعاية الخيل و التعلق بها و المشاركة في حملات الغزو والحرب ، فحضر معه معركة (عروى )المشهورة وهو لم يبلغ العاشرة من العمر وكان له دور كبير في معركة (المليدا) حيث تحمل حماية المنسحبين بعد أن بانت الهزيمة ، مما اوقعه في الأسر مع بعض أخوته و ابناء عمومته ، في سجنه الذي دام ( ٨ ) سنين تعلّم الصبر والتفكير الروي وبعد أن هرب من سجنه ، و في دمشق كان يجادل أخاه (صالح) أن لا طائل من استجداء دعم (الباب العالي ) فالأتراك قد آختاروا حليفهم في نجد ، وهو يحقق النجاح الذي يريدون وما يسمعه منهم من وعود ، ماهو إلا تجميد واضاعة للوقت وقتل لهمته ، لم يكن سليمان يحتاج أكثر من قصيدة ليثني أخاه ( صالح ) في آتجاه آخر ، فكانت القصيدة المشهورة ( الخلوج ) للشاعر محمد العوني ، و إلتم بعض أهل القصيم في الشام ليسيروا بقيادة (صالح الحسن ) نحو الكويت للتحالف مع الجيوش التي شكلها مبارك بن صباح لحرب عبدالعزيز المتعب الرشيد واسترداد حكم الآسر النجدية ، لم يكن سليمان راضياً عن كثير مما يدور في تلك الحملة ، وكان مع أخيه (صالح) يعدون للتخلي عن التحالف مع ابن صباح خصوصاً بعد استيلائهم على بريدة ، ولكن ذلك لم يحدث وجرت معركة ( الصريف ) التي قتل فيها كثير من عائلته ، منهم أخيه ( محمد ) وكان قريباً منه فحزن لذلك حزن عظيم ، وتتوالى الاحداث ويسترد الملك ( عبدالعزيز ) الرياض ، وبعد أن تستقر الحال له في الرياض ويعقد العزم على التوسع في توحيد البلاد يستحضر حلفاءه ، فيحضر سليمان الحسن مع الجيوش التي تكونت لفتح القصيم ، و في القصيم تدور ملحمة الصراع السياسي لعدد من السنين ، فتلقي بسليمان الحسن لاجئاً في العراق مدة ( ١٥ ) سنة ، ليعود بعدها رجلاً مختلفاً ، قد رمى البندقية خلفه للأبد بعد أن كانت لا تفارقه حتى في المنام ، وأختار أن يعتزل الناس في مزرعة ورثها عن والده في قرية (الربيعية) إلى أن توفي في العام ١٣٨٠هـ .

الحياة بقسوتها ومكرها علّمت سليمان الحسن الشدة على النفس وتحمل العناء في سبيل الغاية ، فلا مكان في نفسه للمتعة والدعة ، لذا كان خلال سنين لجوءه في العراق يرفض العروض التي يبديها له الأقرباء والأصحاب بالزواج من أحد بناتهم والإستقرار في حياة هنيئة بينهم ، وكان يلتهي عن ذلك بزيارات القبائل ، واستجلاء فرص التحالف في سبيل استعادة دور مفقود ، وفي يوم من تلك الأيام بلغ سليمان الحسن الخمسين من عمره ، وافاق على فكر مختلف ، فلم يعد لنضاله جدوى ، في ذلك اليوم تذكر آنه بات خلياً من الاخوان الذين أهلكهم الصراع ، ولا عقب له من صلبه ، فبات الوحيد يسأل نفسه " اما آن لي آن آلقي البندقية و ارتجي الله أن يغفر لي زلاتي وطمعي في هذه الدنيا ؟ أما آن لي أن اهجع للسكينة والأمن والصلاة لعل الله يحسن عاقبتي ؟ أما أن لي أن انجب من يحمل ذكري وذكر آبي ويسترحم لأخوتي ؟ " ، كانت الأيام تمر ثقيلة حتى جاءه خطاب ( العهد والأمان ) ، فلم ينتظر لحظة ليعود لحضن الزوجه ( لولوة السليمان العيسى ) التي تركها (١٧) عاماً تربي ابنتيه ( نورة و هيلة ) ، كان مخلصاً لها حافظاً ودها طوال تلك السنين ، وكانت أمينة في محبته ورشيدة في ماله ، فجمع الله بينهما من جديد لينجبا بنت أخرى وولدين ( حسن وحصه وعبدالله ) ، كان حريصاً على تجنيب ولديه كل ما من شآنه تعريضهم للأخطار ، فكان يحضر عليهم الجدال في أمور السياسة وما حل بأسرتهم ، وينهر من يناقشهم ذلك ، حتى أنه اضطر لحرمان ( عبدالله ) المدرسة التي كان يرتادها ببريدة عندما علم أنه يجتمع ببعض أقرانه في منزله ببريدة و يتسامرون بقصص الصراعات التي كانت ، و بعد أن شاخ به الزمان ، كان ينتظر بفارغ الصبر احفاداً بهم يطمئن لأستمرار عقبه ونسل أبيه ، وعندما حضرته الوفاة ، قال مودعاً أبناءه " ياكثر ما واجهت الموت وانا خايفٍ منه ، واليوم اشوفه قبالي وانا ولهٍ ( مشتاق ) على أهلي اللي راحوا قبلي ، الله يجمعنا وأياكم بدار رحمته " ، كانت تلك آخر كلماته قبل آن يتشهد شهادة الوفاة .

وأنا اتذكره اليوم ، بيدي قصاصة ورق من دفتر يومياته هي آخر مابقي لي من آثره ، كتب فيها بخط يده ( بسم الله الرحمن الرحيم جاء لنا هذا اليوم المبارك ١٣ ربيع الاول ١٣٧٦ الابن محمد العبدالله بارك الله به .وصلى الله على نبينا محمد )، تلك كانت شهادة ميلادي . رحم الله جدي ( سليمان الحسن المهنا ابا الخيل ) رحمة واسعة .

السبت، 29 أكتوبر 2011

ليبرالية آم حرية ، ليس هذا هو الخلاف

كثر في هذه الأيام مدَّعو الليبرالية، وكثر أعدائها، وعندما تنظر في أدبيات المدعين والأعداء تكاد تجزم بأن كلاً منهم يتحدث عن ليبرالية مختلفة عما يتحدث عنه الآخر، فمُدَّعو الليبرالية يرونها عنوان التنوير والانعتاق من قيود المألوف وعتيق الفكر والعادات والتحرر من قيود التغيير، في حين يرى الأعداء أنها حرب للدين وتملص من الالتزام بمقتضيات الشرع في التعامل والتعايش. وعندما تبحر في فلسفات الليبرالية تجد أن هناك توجهات مختلفة وطروحات متباينة تجعل مفهوم الليبرالية أشبه ما يكون بالسلطة تسود فيها الخضرة المفضلة عند صاحبها.

أنا كنت أعتقد أن الليبرالية هي حركة تمحورت حول تحقيق الحرية المطلقة للخلاص من تبعية الاعتقاد الديني ابتداء، ولكن بعد بحث وتدقيق تبيّن لي أنها حركة فكرية برزت بوصفها مفهوماً فلسفياً يبحث عن صيغة للعدالة الاجتماعية في أوروبا القرون الوسطى، حيث كانت ترزح المجتمعات الأوروبية تحت وطأة جور النظم الإقطاعية وتآمر الكنيسة مع تلك النظم. وكان محور هذه الفلسفة هو تحقيق الحرية الخالية من الإذعان، هذا المفهوم تشعب وتفصل وبات موطن كثير من الخلافات حول ما هي الحرية؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة، أو هي لازمة أو مكتسبة؟ وهل هي فردية أم جماعية؟.. هذا الجدل أفرز حركات تغيير مبنية على فكرة ليبرالية مركزية؛ فحركات التحرر الديني كانت تعتمد على حرية المعتقد، وحركات التحرر السياسي تعتمد على حرية التمثيل والتفويض، وحركات التحرر الاجتماعي تعتمد على حرية الاختيار؛ فبرزت العلمانية بوصفها مشروعاً لفصل الدين عن الدولة، وبرزت الجمهورية بوصفها مشروعاً للتمثيل السياسي، وبرزت الشيوعية بوصفها مشروعاً للتوازن الطبقي والعدالة الاجتماعية، وفي مقابل ذلك برزت حركات أخرى مماثلة ومنافسة. هذا المخاض الليبرالي هو ما صاغ الواقع الغربي المعاصر، الذي يقوم على الحرية بوصفها ركيزة لازمة للخيار الفردي.

في الإسلام لا حاجة لنا بجلب المفاهيم التي ترتبت على النهج الليبرالي؛ فالإسلام يضع الحرية بوصفها أصلاً لحال الإنسان المكلف بالإيمان والإسلام؛ فالخطاب القرآني الموجَّه للبشر بصورة فردية أو جماعية يقوم على حوار عقلي يعتمد الإقناع بالاستشهاد والتدليل، وهو ما يمنح الإنسان حرية الخيار بعقله بين ما ينفعه وما يضره {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوه بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، فالحرية هي القدرة على المشيئة، ولا يمكن تكليف الإنسان بدون تلك القدرة، فلا يجوز أن تكلف الإنسان بالطيران وهو لا يملك القدرة على ذلك؛ لذا وضع الإسلام الحرية في موضع التأسيس للتكليف، وإعفاء من التكليف مَنْ تقيدت حريته بعائق لازم كقلة الفَهْم عند صغير العمر أو فقدان العقل عند الكبير، أو العائق البدني للعاجز؛ حيث يُعفى المكلف من بعض ما لا يستطيع القيام به.

إذن يجوز الجزم بأن الحرية هي أصل حال الإنسان ليتحمل مسؤولية أفعاله، وإن ما يشط به الناس من فَهْم للحرية هو استتباعات الحرية من الأفعال والأقوال، فعندما يقدم أحدهم متمثلاً الحرية على فعل مذموم تُلام الحرية على ذلك، والواجب أن يُلام الفرد ويحاسب على الفعل، والفعل هنا يشمل القول والتصريح بمكنونات الجنان من الأفكار والأهواء، ومثار الجدل بين الفرقاء هو مساحة ذلك المذموم من الأفعال والأقوال، التي تستوجب المحاسبة، فتلك في أعين فريق ترى كبيرة تستلزم التصغير، وفي أعين فريق آخر صغيرة تستلزم التوسيع، وبين هؤلاء وهؤلاء طيف واسع، وحجج الجميع فيما يريدون معظمها مستمد من فهمهم للإسلام بوصفه ديناً ودستور حياة؛ لذا نجد هذا الخلاف متبايناً في طرح الحلول لما يواجهه المجتمع من تحديات.

هذا الحرك الفكري مطلوب، والنقاش حوله مفيد في تقريب المفاهيم وإذكاء المعرفة ونشرها بين الناس، ومع ذلك يحتدم أحياناً في صورة تفقده رصانة العقل ويشط البعض فيه؛ فيتهم ويُخوِّن ويصف الآخر المختلف بأبشع الألفاظ، وهذا أمر مؤسف؛ فاللجاج صخب لا يسمعه إلا صاحبه، لا حجة فيه تقوم، ولا علم به ينتفع؛ لذا من الأجدى أن يكون تناول مواضيع الخلاف مبنياً على حُسْن الظن بإرادة الحقيقة، وألا تكون هذه النقاشات ميادين لكسب المتفرجين؛ فكثير من التعليقات التي تصاحب بعض المقالات هي أبعد ما تكون عن الموضوعية، وكأنها صراخ مشجعي المدرجات في ملاعب الكرة.

هل تجوز الليبرالية شرعاً

ثار الدكتور عبدالله الغذامي جدلاً لا يزال محتدماً، بعد أن وصف الليبراليين السعوديين بأنهم موشومون في محاضرته «الليبرالية الموشومة»، وفي لقائه مع الدكتور عبدالعزيز قاسم في برنامج (البيان التالي) كرَّس تلك المقولة وشدد على أن الليبراليين السعوديين يفتقدون للخطاب الواضح والنضالية لمفهومهم، هذا الجدل الذي استأثر بكثير مما يطرح في الساحة الثقافية السعودية هذه الأيام، فولَّد ما يشبه مظاهرة احتجاج فكري، وأخرى محتفية بكلام الغذامي، ومتكية عليه في حراب واضح لمفهوم الليبرالية، وحيث إن هذا الجدل لم يعد محصوراً في أروقة النوادي الثقافية ومجالسها، بل إنه استولى على اهتمام الإعلام العام، وبات حديث الصحف والشارع، وبات كثير من الناس يسأل، ما هي الليبرالية؟ ومن هم أصحابها؟ وهل القول بها من باب المذموم شرعاً؟.

سبق أن كتبت في مقال سابق أن الليبرالية بدأت كمفهوم فلسفي يتناول حرية الخيار الإنساني، وحيث إن محور الليبرالية هو الحرية، والحرية هي حال وليست نشاطاً، وقد ناضل المفكرون الغربيون في سبيل اكتساب اعتراف عام بأن الحرية حق لازم لأصل كينونة الإنسان؛ فالإنسانية تمتهن قمع الحرية أو الانتقاص منها، بل إن بعض المفكرين زاد على أن جعل الحرية حق لازم لأي كائن يملك الإرادة، وكثير من هؤلاء هم رواد حركات حماية حقوق الحيوان، والسائد بين المفكرين المنادين بالحرية هو الاعتقاد بالحرية بمفهومها المطلق، والذي يقوم على إطلاق خيار الإرادة من أي قيد طارئ (أي غير لازم لقصور ذاتي)، فيكون الإنسان في خيار فعل الشيء أو عدم فعله، أو قول الشيء أو عدم قوله بناء على إرادة فكرية مؤسسة على قيم سامية وليست مؤسسة على مصالح ومخاوف أو غرائز مؤججة، لذا يحتج المفكرون الليبراليون بأن القول إن الحرية المطلقة هي إفلات للحيوانية وهدم للقيم الإنسانية المشتركة، هو قول غير مؤسس على فهم لعقيدتهم، وهم يدافعون عن ذلك بالقول إن الحرية أصل تكوين المفاهيم المشتركة، والتي تؤسس لانتشار القيم السامية؛ فالإنسان بتكوينه العقلي يدرك أربع قيم أساسية تمثل نشاطات إنسانية هي: التآلف والتضامن والتعاون وحفظ الحقوق، هذه القيم لا تكتسب فاعليتها إلا بسيادة حرية الخيار الفردي، ومن تفاعل تلك القيم الأساسية مع الواقع البيئي بما يشكله من مخاطر ومنافع تتكون القيم الفرعية وقانون العيش العام، أو ما يسمى (العقد الاجتماعي) الذي قد يشمل التشريعات العقائدية والدينية، لذا يقول معظم المفكرين الليبراليين إن الحرية المطلقة هي المؤسس لبيئة نشوء كثير من المعتقدات الدينية والتكوينات السياسية والاجتماعية، وإن العمل على كبحها أو قيدها، هو انقلاب فكري مؤسس على رغبات ومصالح لا على قيم سامية، وهو صورة من صور تكريس المفاهيم الناقصة، التي لا تصمد أمام المعالجة العقلية المستنيرة، وهؤلاء المفكرون الليبراليون لا يناطحون العقد الاجتماعي بمقولة، إنه مغلوط يجب تغييره، أو إن الحرية هي سلاح لنقض ذلك العقد، إنهم يقولون إن الحرية هي البيئة الحافظة لاستدامة تأسيس وتطوير العقد الاجتماعي، بحيث يكتسب آلية التحديث، فيعظم فعالية القيم الإنسانية الأساسية الأربع، وبالتالي يحقق السعادة للمجتمع بصورة عامة عندما يحقق حرية إرادة أفراده يؤخذ على الطرح الفكري الليبرالي، الإفراط في المثالية للدفاع عن الحق بالحرية المطلقة، فمُنظِّروه يقللون من عامل الأنانية الفردية التي يحكمها التوازن بين الطمع والخوف وليس القيم السامية، فهم يفترضون أن الإنسان بطبعه مدرك عاقل تحكمه القيم الأساسية الأربع وإن كان هناك أنانيون فهم قلة تحكمهم حالة طارئة تفترض حماية الذات، في حين يجادل المخالفون أن ذلك خلاف للتراث الإنساني التاريخي والذي أثبت أن الصراع حكم حياة البشر منذ الأزل وأن المحرك لذلك هو الأنانية الفردية، ومع ذلك فإن مقولة الليبراليين باتت مقبولة لدى أوساط كثيرة قد لا تتبنى طروحاتهم بجملتها، ولكنها تتعامل معها باحترام بغية الوصول لمفهوم مطمئن للتعامل مع الحرية، معظم هذه الأوساط هي أوساط دينية أو مذهبية سياسية، وأحد أسباب الفصام مع المفهوم الليبرالي حول الحرية وتلك الأوساط هو المكون المقدس في المعتقدات والتعاليم الدينية، وكونه لا يقبل الحلول الوسطى مع مفهوم الليبراليين حول جزئية أن الدين من مكونات العقد الاجتماعي وهو عرضة للتطوير والتحوير لتحقيق فاعلية القيم الأساسية. كما أن الليبراليين لا يقبلون اجتزاء الدين من حركة التطوير، خصوصاً عندما يكون الدين متشعب التداخل مع النشاطات الإنسانية المحققة للسعادة.

لذا فالواضح أن المفهوم الليبرالي بصورته الأصلية، يتصادم مع كثير من المسلمات الإسلامية؛ فالإسلام كمعتقد هو علاقة ربانية إنسانية مؤسس عليها العقد الاجتماعي وهو بهذا على خلاف منهجي مع الفكر التأسيسي لليبرالية، حيث يرى الإسلام أن الحرية هي خارج إطار العلاقة الإنسانية الربانية وهي مرهونة بمقتضيات تلك العلاقة، فالإسلام لا يقر بحرية المعتقد بغير الإسلام في ظل سيادة الإسلام، ولكنه يقبل في التعايش مع غير المسلمين اتقاء لصولتهم وشرهم. هذا الخلاف المنهجي بين الإسلامي والليبرالي، هو ما يجعل الاعتقاد بالليبرالية المطلقة أمر محرج لكثير من المفكرين المسلمين، فهم إما أن يخرجوا من الاعتقاد الأساسي بدينهم، أو الاعتقاد الأساسي بالليبرالية. وهو ما يجعل كثيراً من الليبراليين السعوديين يحاولون إيجاد منطلق توفيقي بين المنهجين بصورة موشومة كما قال الغذامي.

كثير من الذين ينشطون في طرح فكر تنويري تقدمي في الساحة الثقافية السعودية هم من الملتزمين بالمعتقد والممارسة الإسلامية، ومجال نضالهم الفكري هو ضمن المختلف عليه والمتشابه في المكون الديني في العقد الاجتماعي، لذا فنضالهم لا يزال تحت المظلة الإسلامية، وعندما يطالبون بإعادة النظر في شبهة أو حكم أو فتوى سابقة فهم يجادلون، أن ذلك النضال لا يطال الثوابت الإسلامية، ولكنه يحاجج حكم وأقوال الرجال من الفقهاء، ويطالبهم بالنظر فيما يساق من حجج وذلك انطلاقاً من القناعة أن الحق في الإفتاء هو معقود لهؤلاء الفقهاء والعلماء، والجدال معهم لا ينطوي على استخفاف أو إقلال، نعم هناك احتدام في الجدل وهو عملية لازمة لخلق قوة دفع فكرية تقود هؤلاء الفقهاء لتبني منهج نقدي لمجمل التراث التي تأسس على الكتاب والسنة والذي ألفه رجال قالوا ما قالوا بناء على معطيات فكرية زمنية ومكانية سائدة، لذا فهؤلاء المفكرون السعوديون التنويريون لا ينطبق عليهم التعبير الليبرالي بمفهومه المطلق، فعليهم أن يبحثوا عن صفة لهم تعبيرية وصادقة تجعل من خطابهم خطاباً مشروعاً ومقبولاً اجتماعياً وشرعياً.

صديقي والنفاق


عرفته منذ كنا زميلين في المدرسة  الثانوية , كان ذكياً سريع البديهة شغوف بأحراج الاخرين حين يصطاد منهم هفوة كلامية او غلطة لغوية , تترسم على تعابير وجهة صورة النشوة بالانتصار وهو يجادل ويكابد في دحر كل تبرير من الأخر ويصر على انتزاع الأعتراف بالخطاء واستجداءه الصفح والغفران , كان كثيرون من الزملاء يهابون صولته ومع ذلك كان يستحوذ على الأهتمام , وكثيرون منا يسعى لكسب وده , صحيح أننا كنا جميعاً نهاب مواجهاته تلك , ليس لأنه جريء متسلط ولكن لكونه عميق الثقافة واسع الآطلاع وشديد الملاحظة , وكانت مواجهته محسومة دائماً بذات النتيجة التي نخشاها جميعاً , حقيقة لم اكن من المقربين له ولم تحدث لي معه مواجهة سوى مرة واحدة عندما التقينا في أمسية لدى أحد الزملاء وتباينت مفاهيمنا حول حقيقة النفاق ومدى معذورية المنافق  , كان يرى أن النفاق محصلة ضعف المفهوم والاعتقاد لدى المنافق وهزال في المنظومة القيمية لديه مما يجعل المصلحة الآنية تسيطر عليه فيسلك سلوك ملتوي لتحقيقها من خلال التحذلق والمداهنة والكذب والانكار وهي سمات تجعل من الانسان عديم المصداقية مليص الأعتماد وهو ما يضر بالمجتمع ان تولى امر فيه مصالح للناس , وكنت أرى أن النفاق حالة ذهنية طارئة مرهونة بصراع الأنسان مع محيطه في سبيل حماية كيانه الذاتي و المعنوي تزول مع توفر ضمان حرية المعيشة والكسب والتعبير, ولأن نقاشنا كان ثقافي الطبيعة فقد تبارينا طويلاً في أظهار مخزننا الفكري والأطلاعي بالاستشهاد و التحليل الأمر الذي جعل كل منا يعجب بالاخر دون التصريح خوفاً من الاعتراف بالهزيمة , وباتت العلاقة بيننا بعد ذلك حذرة لا تتخطى مجاملات الزملاء حتى تركنا المدرسة وكل منا سار في مسلك اخر .وبعد ثلاثين سنة وعلى غير موعد التقي صاحبي في الطائرة وفي الكرسي المجاور لي ونحن عائدون للمملكة من لندن , لم اعرفه في البداية فقد تغير مظهرة الذي عهدته وكذلك انا بالنسبة له ولكن بعد ان تحدث اكثر من مرة مع المضيفة  استألفت الصوت ونبرة الحديث وكأن الزمان رجع بي إلى تلك الأيام الخوالي , فنظرت إليه وقلت هل انت أحمد فرمقني بنظرة سريعة كما عهدته وبملامح الأستغراب لبرهة قبل ان يقول من الأخ ؟ ثم بسرعة يستدرك قبل أن أجيب وبلهجة استفهامية "محمـــــد" وبعد أن حيينا بعضنا تحية تليق بما بان بيننا من السنين وكل منا أستفهم عن حال الأخر وما آلت إليه أحواله وما نتج له من عيال ومال , عدنا بالذكريات إلى صبانا ومماحكاتنا التي لم يكن لها هدف إلا إبراز التفوق على الأخر وبمضي رحلتنا الجوية استرجعنا ذلك الحوار القديم وكان هو البادئ فقال "يا ابوعبد الله أتذكر يوم تجادلت و إياك عن ماهية النفاق وهل للمنافق حق في أن ينافق " قلت " الله ! أتذكر حتى الآنخطاء.ل  "نعم " ثم سكت برهة وأطرق ليعود يستكمل حديثه " أنت تعلم أن والدي عندما توفي كنت لازلت في الجامعة  وترك عائلة قليلة الموارد , كنت الأمل لهم في تحسين معيشتهم بعد التخرج , والتحقت بالعمل في أحد الشركات الصناعية الجديدة المشتركة مع شركة أجنبية وحيث كان عدد السعوديين قليل في تلك الشركة فقد تشكلنا في صورة شلة نجتمع دورياً في منزل أحدنا وكانت تدور المناقشات حول مسائل سياسة واجتماعية وعملية وغيرها , وكما عهدتني كنت لازلت شغوفاً بمقارعة الأفكار لا أنضوي حتى أدحر الأخر , طبعاً فكرياً ,, وفي ضني أن ذلك لا يخلق للود قضية ! طبعاً كنت على خطاء .. حصل زميل لنا في الشلة على ترقية أصبح بها رئيساً لي , وكنت مسرورا في البداية لترقيته إلا أن ذلك لم يطل , فقد بات هذا الزميل الرئيس مصدر قلق لي فخلال اجتماعات الشلة كان يقاطعني بصورة يشعرني أنه الرئيس و يتصيد الفرص لانتقادي بصورة مهينة حتى تسرب إلى نفسي شعور بالهزيمة وكان مصدر ذلك الشعور قلقي على مستقبلي في الشركة ومستقبل معيشتي وخصوصاً إنني أعيل بالإضافة لعائلتي أسرتي الصغيرة لذا بت أتجرع تلك المرارة واستقصر في الحديث خشية التسكيت بل أني ابتدعت عن غير وعي سلوك أتكسب فيه رضي رئيسي و أتحين الفرص للاستشهاد بمقاله أو الثناء على حديثه دون أن يكون ذلك مطابقاً لما يختلج في ذهني " ويتوقف برهة  ثم يواصل " يا ابوعبدالله في ذات ليلة كنت عائدا بالسيارة من أحد تلك الاجتماعات بعد سهرة مليئة بنفاقي وتسطحي  , كنت ناقماً على نفسي أعاتبها على ضعفها وتهشم كبريائها وفي لحظة تستولي على صورة ذلك النقاش الذي دار بيننا و أستذكر رأي في المنافق فأرتجف سخطاً على نفسي وترتفع نبرة عتاب ذاتي بالشتم والتحقير لضعفي وسقوطي في هاوية النفاق , ثم أستدرك مقالك أن النفاق حالة ذهنية تزول بزوال مسببها " يتوقف عن الحديث و تشتد تعابير وجهه وتتطارد أنفاسه متسارعة  ويستطرد " يا أبو عبد الله كان مقالك هو المخرج , فلم ابلغ البيت إلا وقد عزمت على أن أحرر نفسي من ارتهانها لتلك الحاجة المذلة فكان أول ما فعلت في الصباح التالي ابلغ زوجتي بقراري الاستقالة من العمل والانتقال إلى الرياض , وكان ذلك أعظم قرار في حياتي " , لم استطع أن اخفي دهشتي من رواية صاحبي وتحول كل منا لفكر الأخر فعلى مر السنين مررت بعدد كبير من الناس لم يتعرضوا لضغوط  تملي عليهم النفاق بقدر ما احترفوا ذلك كوسيلة للاكتساب وتحقيق المأرب عن سابق تخطيط وترصد . لذا يبدوا أن النفاق ليس حالة ذهنية بل هو حالة وجدانية تحدث لدى الإنسان بمجرد أن تضعف منظومته القيمية ويبعثها للظهور تقلبات الحياة ومصالحها .

آداء كالطلقة



لطالما شغل الأداء الإنتاجي الفردي والجماعي بال الكثيرين, كيف يؤدونه وكيف يحسنونه وكيف يقيمونه فأمسى لدينا عشرات الطرق والوسائل لتحسين الأداء وأصبح هناك عشرات النظريات ومئات الأدوات الخاصة بقياس الأداء وتقييمه وما هذا إلا دليل على غموض مفهوم الأداء الإنتاجي بصورة عامة .
هناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الجهد والمثابرة لذا فهو مرتبط بالنتائج , وعلى ذلك يميل هذا الفريق لطرق كمي  , ويهتدي بالنظريات والجداول الإحصائية و يعتمد على القياس والمقارنة و ربط الخطط بالمتحقق , وهناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الوجدان , لذا فهو مرتبط بالرغبة للتعلم والتغير إلى الأفضل لذا يعتمد هذا الفريق على تهيئة البيئة المناسبة للارتقاء بالمعرفة والمهارة , وكلا الفريقين يعتمد على وسائل وأساليب  ثبت بالتجربة تحقيقها انجازات تدعم إدعاء  كل منهما , وما برح الفريقين في جدال حول كليات وجزئيات مفاهيمهما وكغيري ممن افتتن بدراسة وفهم هذه الظاهرة الإنسانية والتي تسمى "الإحسان في العمل"  وجدت نفسي لفترة من الزمن متأرجحاُ بين المفهومين و كنت في كل مرة انتقل للعمل في مؤسسة جديدة , أواجه بمهمة وضع معايير لتحسين وقياس الأداء , وكان ذلك سهلاً من الناحية التنفيذية  فما يلزمني سوى اقتباس نموذج معد سلفاً من قبل مؤسسة أخرى وأجراء بعض التعديلات الطفيفة ثم اعتماده , إلا أن ذلك كان يمثل لي تحد فكري , فمهما أجريت من التعديلات , ولو بلغت تحوير كاملاً لتلك لأداة التقييم , إلا أنني أبيت غير مقتنع بجدوى تلك الأداة , ويشكل على تقبل ذلك , وخصوصاً عندما يحين موعد تقييم الأداء وارى الحيرة في وجوه المشرفين المسئولين عن تقييم مرؤوسيهم وتتناهى لي جدالات الموظفين حول العدالة في التقييم والضن بالنيات المبيتة  .
أن هذا التجاذب الذهني الذي عشته  ردحاً من الزمن , دفعني إلى القناعة بأن الظواهر الإنسانية من الصعب تنسيقها على نمط , فالعوامل المؤثرة في محصلة التفاعل الإنساني كثيرة ومختلفة الاتجاه و القوة لذا من الصعب الإلمام بكل تلك العوامل واتجاهاتها و شدة تأثيرها , وأصبحت من المشككين بجدوى أدوات قياس الأداء بالصور السائدة والتي تتمثل في تقييم فردي وبصيغة قضائية ,حيث يقوم المشرف بوضع نقاط قياسية لمعايير معدة سلفاً لسلوكيات و سمات الموظفين لا تتناسب مع طبيعة أعمالهم والعوامل المؤثرة في أدائهم بالضرورة , وتؤدي إلى قرارات مؤثرة في حياتهم المهنية .
لذا وبعد بحث جهيد لا مجال هنا لتفصيلها , اهتديت لنموذج يصف الأداء بالصورة التي يقرها فكري , وحيث أميل لمذهب النظم في التفكير فقد بات علي اعتماد منهج للأداء متكامل العناصر فمداخلاته تتمثل في الموارد المسخرة له من قدرات بشرية و أدوات و مواد و أموال ومعايير وقوانين المعالجة والتحوير والتغيير و صفة محددة للمنتجات والتبليغ المستمر عن حال طباق المستهدف بالحاصل . هذا النموذج الذي بات رهين مراجعاتي على مر السنين العشر الماضية , أجتاز شكوكي واختباراتي واقتنعت بجدواه و بات يمثل محور تفكيري حول تحسين الأداء وقياسه , ولزمني أن أعلنه على الأقل بالصيغة المختصرة التي تناسب وضعه في مقال .
أداء كالطلقة , هو تشبيه لما يمكن أن تحققه المؤسسة التي تتبنى هذا النموذج فهو يصور أداء المؤسسة كطلقة باتجاه هدف , يحثها القدرة والقوة الكامنة في انطلاقها وتخترق القوى الخارجية المواجهة لها لتصل للهدف بالدقة والسرعة المتحققة من تفاعل قدرتها و تحدياتها . هذا النموذج يتمثل في الشكل الموضح  ويقوم على عناصر أساسية هي :

 





تحديد الهدف , وهذا يتحقق بوضع رؤيا ورسالة للمؤسسة , فالأداء الإنتاجي موجه بطبيعته , وأن لم يحدد له هدف مكتوب فالهدف يتبلور في صورة ذهنية تسكن عقول الملاك و المدراء والعاملين , لذا يتفاعل كل منهم بما يستهدفه من طموحات وأمال و يكون هناك بالضرورة قاسم مشترك لتلك الطموحات والآمال , لذا يكون من الأجدى لو أعلن هذا القاسم المشترك وبات هو الهدف المشترك للجميع .
·      تحسين المدخلات , هناك تعبير يستخدمه متخصصي الحاسب الآلي للتعبير عن ارتهان صدق وجودة مخرجات المعالجة الحاسوبية بالمدخلات فيقولون " إذا ألقمت الحاسب اللآلي قمامة فستحصل عل قمامة مخرجات " وهذا ينطبق على جميع صيغ المعالجة بما فيها المعالجة البشرية فالأداء البشري بغض النظر عن مدى ضبط تفاعلة يضل مرهوناً بجودة المدخلات  من مرافق وموارد مادية ومحفزات معنوية .
·      البناء الاجتماعي للمكون البشري , بمقدار اختلاف الناس في توجهاتهم وأساليبهم ,إلا أنهم بحاجة لمعايير تضبط سلوكياتهم وتقنن تفاعلاتهم - حيث لا يعتدي القوي منهم على الضعيف - وتخلق لديهم شعور بالاطمئنان يرفع عنهم هاجس القلق على مصيرهم ,وكمحصلة لذلك يتحقق في أذهانهم صورة للعدالة تبعث في نفوسهم الرضا والحماس على تحسين واقع العمل . وينمو لديهم شعور بالانقيادية للتوجه الذي تختطه المؤسسة والالتزام بمنهجها .
·      البناء المنهجي للعمل , ويتمثل ذلك في وضع النظم و القوانين التي تحكم العملية الإنتاجية واستخدام الموارد بحيث تحقق الحدود المقبولة من حماية العاملين في صحتهم و معاشهم و حقوق المالكين في رعاية وصيانة ممتلكاتهم وتعظيم العائد النفعي من استخدام الموارد .
·      تحسين الكفاءة ويكون ذلك في شحذ همم العاملين على الاكتساب المعرف و بناء المهارة و تيسير وسائل وظروف التطوير الذاتي , ووضع سياسات و طرق لربط ذلك في الترقية والمكافأة , بحيث يجد العامل الفرصة في التقدم في العمل من خلال الجهد والوعي بدوره في العملية الإنتاجية وتكوين القدرة على النقد الذاتي و المعرفة بسبل تحسين الأداء الذاتي و ربط ذلك بالجهود الجماعية لفريق العمل .
·      إدارة البيئة المؤسسية . أن العمل ضمن أطر تنظيمية  و هيكلية تقسم فيها الأدوار و المهام و تتسلسل فيها التوجيهات يخلق واقع تعاملي بين العاملين يوظفون فيه قيمهم و سلوكياتهم ومفاهيمهم على نحو يحقق لهم القدر المقبول من الحرية الفردية و التعاون الجماعي في سبيل أنجاز الهدف المشترك وبقدر ما تختلف مشارب العاملين وأهدافهم بقدر ما تمثل تلك البيئة من تحد لكيان المؤسسة وقدرتها على الأداء الأمثل لذا لابد أن يتم صرف جهد أداري لبناء بيئة مؤسسية فاعلة في تنمية الأداء ومراقبة ما يطرأ على تلك البيئة من تغيرات .
·      تطوير نمط القيادة . في كل مجتمع من الناس لابد من وجود شخص أو أشخاص تناط بهم القدرة التوجيهية لذلك المجتمع بحيث تتحقق تطلعات المجتمع إلى معيشة أفضل وحماية أفضل بفضل القدرات الكامنة في ذلك المجتمع , لذا تكون المهارة القيادية في القدرة على التعرف واستخلاص القدرات الفردية والجماعية للمجتمع وتوظيفها بصورة تضافرية لتحقق الهدف المنشود وبعث الحماس والثقة في المجتمع على الالتزام بتلك التوجهات , وبقدر ما يمارس القادة ذلك بتقانة عالية بقدر ما تتحقق الجودة في تحقيق الهدف , لذا لابد من تولية أمر القيادة وتطورها اهتمام بالغ.
·      التنسيق وخلق التوازن . قد يكون من أدق النشاطات المؤسسية هو تنسيق التوازن بين مكونات العملية الإنتاجية بحيث يتم توظيف القدر المناسب من الموارد وضبط تناغم تضافرها لتصبح أشبه ما تكون بجوقة من العازفين المنتجين لمقطوعة موسيقية تشنف الأذان , والتحدي في تنسيق التوازن المؤسسي يكمن في عدم وضوحه كمهمة منفردة فهو نتاج لوعي و إلمام بمدى تناسب مكونات الإنتاج المؤسسي والأهداف و البيئة الخارجية للمؤسسة المتمثلة في العملاء وتوقعاتهم والمنافسين وخططهم والجهات التنظيمية وبيئة النشاط العام بصورة شاملة .
أن أي مؤسسة تروم أن ترتقي بأدائها إلى أفاق جديدة يضمن لها التميز والقدرة على تعظيم عائدها النفعي مطالبة الآن أكثر من ذي قبل بتبني هذا النموذج أو أخر يحقق نفس النتائج ويلم بجميع العوامل المؤثرة في العملية الإنتاجية. هذا النموذج تم استعراضه باقتضاب مراعاة لضيق المساحة فلم يتم التطرق للعملية التطويرية الإجرائية ولا شرح مسهب لفلسفة تقييم وتقويم الأداء والتي سيتم الإسهاب فيها في كتابات لاحقه .

جراحة في رأس رجل


صاحبنا يعاني من صداع مزمن في رأسه , يلم به شديدا في كل مرة يحتار فيما يختار , أيقول ما يريد أو ما يجب أن يقال وصاحبنا ذلك الرجل , بدأ حياته صادق الطوية ساذج الضن , يرى ما يصُنع ويسمع ما يقال فيجول في خاطره ألف سؤال , دفعت به لأستكناه جوابها من عمل عقله , فبات كثير الفكر والتأمل لعله يهتدي لخير حال .
ذهب صاحبنا إلى الطبيب يشكو علته التي أوجزها بقوله " يا دكتور لقد آلمّ بي هذا التناقض فبت مشتتاً بين ضمير يريد إصلاح و أنجاح أساسه عدل في النظر وصدق في القول وتغليب للحق , وهوى يريد كسب غير محدود يقوم على سطوة النفوذ وحجة القول ونباهة الحيلة , ولكل حجة وبرهان فضميري يستشهد بالقرآن وجبلة الله خلقه على حب الخير وإحقاق الحق , وهواي يسخر من تلك السذاجة ويدعي بأن الحياة صراع من أجل البقاء القوي فيها سيد مطاع على ما يقترف من رزايا , فسطوته تبدد كل ضن , وكليهما يجادل لحيازة معاني العدل والرحمة والحقيقة والصدق عندي , فالضمير يرى أن العدل شرع الله في الناس يحتكم له و به تستقيم أمورهم ما عليهم إلا الانقياد له لتكتمل سعادتهم , والرحمة هبة الله للقلوب بها يدفع الناس عن بعضهم الآم الدنيا , والحقيقة هي ذلك النور الذي به نرى ونميز فلا نتيه أو نتشتت , وأما الصدق فهو وصف حقيقة الأشياء والمعاني , ومع أن ما يبديه الضمير حري بالقبول والاحترام , إلا أن الهوى يسخر من ذلك ويعتبر الضمير حالم غير واقعي , فهو يدعي أن كل المعاني هي من اختراع الإنسان ولا معيارية لها فالعدل المطلق غير موجود ولا يمكن أن يحدث في واقع تختلف فيه عوامل التأثير في العلاقات بين الكائنات فالقوة والحاجة والحيلة وقلة الموارد المتوفرة بغير جهد كلها تجعل العدل نسبي وما أضل من ترميز العدل بالميزان فالميزان متجانس التكوين و المؤثر في كفتيه واحد هو قوة الجاذبية , أما في واقع التعاملات فالعوامل المؤثرة كثيرة وتوزيع تأثيرها يخضع لمفاهيم مسبقة على تقييمها , لذا كل يرى العدل من جانبه وبهذا يستقيم تعايش الناس فالحاكم يرى العدل في عقاب المعتدي وذلك يرى الظلم في عقابه والتجاوز عن غيره . لذا يكون العدل عدلاً بمقدار القدرة على إلزامه , أما الرحمة فهي دفع لشعور الخوف من ذات المصير, وتعتمد على واقع العلاقة بين الراحم والمرحوم ومدى القدرة على رفع العناء عند الراحم وهي ليست سوى مشاعر أنية تزول بزوال الموقف أو استدامته , فمن يرحم جريحاً يتألم ويسارع لنجدته هو نفسه الذي يتمشى بين مئات الجرحى من الأضداد في معركة المكتسبات , لذا على الإنسان الواعي إدراك أن الرحمة دلالة ضعف تدفع الإنسان للتخلي عن مكتسباته بجدارة الأخر على استعطافه , إما الحقيقة فهي ليست نور كما يدعي الضمير , وإنما هي ترجمة ذاتية لهوية الأشياء والمعاني بناء على مفاهيم مسبقة تأسس كل منها في ظروف مختلفة وبمشاعر مختلفة فمن يعتقد بدوران الأرض حول الشمس هو لم يلمس تلك الحقيقة بصفة مباشرة ولكنه أستشعرها من مقال مصدوق لديه , لذا فالحقيقة هي ما نقرر أنه حقيقة مقبولة , وأما الصدق فهو القول بما يطابق ما ندعي أنه الحقيقة ولا أحد غير الله يعلم ما في قرارة النفوس,  والتاريخ لنا شاهد بخلافات من شُهد لهم بالصدق في القول والنزاهة في الفعل والقصد في الهدف , فلو كان لديهم معيار موحد لما اختلفوا. ويكمل حجته بأن علي أنا أتباعه , فما لطالب العلا إلا أن يقتنص الفرص كما تقتنص الطرائد , شيمته  الوعي والحذر وسلاحه ما يناسب من ترسانة الغاية تبرر الوسيلة .
يا طبيبي العزيز ,لقد بات في قرارة نفسي رغبة في التخلص من هذا الشغب في ذهني فعزمت أمري ان اضع راسي على طاولة عملياتك فتفتحه وتبحث عن آي من الاثنين ذلك , الضمير المؤرق أو ذلك الهوى المزعج ,فمتى ضفرت بأي منهما فأنزعه نزع قوي مقتدر لعلي اخلص من ذلك الصداع المؤلم ."
فكر الطبيب واجمع ضنه بان الرجل غير سوي النفس  وعزم الأمر أن يسترسل في حواره لعله يهتدي لمكمن علتة النفسية , فبادر الطبيب صاحبنا بسؤال الحائر " ولكن إذا نزعنا الضمير فستكون أسير هوى مستبد ربما يوردك المهالك بجسارته وتهوره فتكون غولاً على الناس تفتك بهم وتستحل حرماتهم , وإذا نزعنا الهوى فستكون حبيس ضمير حذر يحسب الأمور بألف حساب فيصيرك ناسك للمعاني طوباوي النهج قليل الحيلة , فينتهي بك الأمر لقنوط وخمول ربما يدفع بك للفتك بنفسك ". و أومأ الطبيب بيديه للرجل كما لو كان يستحثه  الإجابة , حيث بداء له أنه احكم الحيرة لديه فبات الرجل في فناء الاعتراف ليكشف للطبيب مكامن نفسه المتوترة .
نظر الرجل للطبيب نظرة المستجمع قواه للمنازلة ثم اطرق ناظريه للأرض و بابتسامة مصطنعة بادر الطبيب " أتضني مجنون أو لدي خلة من وسواس ؟" وقبل أن يجيب الطبيب تابع و كأنه لا يريد إجابة " يا دكتور سأشرح لك مكمن علتي حتى لا تضيع الوقت في استفهام صحة عقلي " وسحب الرجل الكرسي في زاوية الغرفة وجلس قبالة الطبيب واخذ نفسا عميقا قبل أن يقول " سيدي الطبيب لا اعلم حالك ولكني اجزم أنك واحد من ثلاثة , فالناس على اختلاف مشاربهم ومللهم لا يملك واحدهم إلا أن يكون رهن جذاب هواه وضميره , فمنهم من يستسلم لديه الهوى للضمير فينقاد لسلوك تكسوه الطيبة والقناعة والعطاء والرحمة للكائنات بما فيها الإنسان ومنهم من يستسلم ضميره لهواه فيصبح شديد الطلب للمكاسب والمتع أناني الحيازة غايته سيادة ذاته على من سواه و أما الثالث فهو من توازن لديه الحوار بين الهوى والضمير وبات كل سلوك لديه نتيجة لتفاهم بين الاثنين , وهو ما كنت اطمح له , فكنت أعتزل في بعض أوقاتي وأترك الاثنين في حوار يعلو وينخفض , ولا أخفيك أنني كنت أعزز ذلك الحوار فأدعم كل منهم بمطالعة فكر الفلاسفة والزهاد وأحبار علوم الدين حتى بات كل منهم حصيف البيان قوي الحجة , ومع مرور الوقت شسع بينهم البين , وأصبح كل منهم يحتقر الأخر ويمقته وبات كل منهم يقتنص الفرص ليستبد بقراراتي , فأمسيت قليل التجانس في عقلي كثير التناقض في سلوكي , أستجلب لنفسي استغراب الآخرين من قلة ثباتي على نحو. يا سيدي الطبيب أتكل على الله وحضر منشارك فقد بت قاب قوسين أو أدنى من أن تنفصم ذاتي."
فضحك الطبيب , بعد أن تبين له أن علة صاحبنا ليست من اختصاصه.