الاثنين، 14 نوفمبر 2011

نحن شعب غير سعيد


خطر لي وانا اقود سيارتي في احد الصباحات والطريق مزدحم آن اتطلع لوجوه الناس – طبعاً الرجال فقط – في تلك السيارات التي تتقافز بعصبية لتتخطى بعظها في صراع محموم على المقدمة ، كثير من تلك الوجوه مهموم ومنكدر ، وقلت في نفسي " نحن في الصباح وإشراقة اليوم مابال الناس واجمين والأجدر بهم السعادة واستقبال الحياة " فحز في نفسي هذا الشعور و جعلت أسأل نفسي ، هل نحن شعب سعيد ؟ ، الح على السؤال طول اليوم ، فإعتمدت على (الشيخ جوجل ) بيض الله وجهه ، في البحث عن إجابة لسؤالي ، فوجدت اننا بمعايير السعادة العالمية متخلفين عن شعوب كثيرة فمرتبتنا في تصنيف معهد ليجاتوم (Legatum) للرفاهية هي المرتبة (٤٩) من تصنيف (١١٠) دول في ذيل القائمة زمبابوي ،- إسرائيل في المرتبة ( ٣٦)- وفي تصنيف جالوب(Gallup) لأكثر البلدان سعادة نحن في المرتب (٥٨) مكرر مع الباكستان من بين (١٥٥) دولة معظمها مكرر المرتبة وخصوصاً في ذيل القائمة. إذا نحن شعب غير سعيد وغير حزين يعني بين بين ، ولكن لماذا نحن شعب كذلك ؟،

بعد أن تأكدت من مرجعية تلك التصنيفات جعلت افكر في سر عدم السعادة لدى هذا الشعب النبيل ، فنحن مهد العرب ومهبط رسالة الإسلام و مصدر الطاقة للعالم ومورد الأموال و البضائع من كل حدب وصوب ، فقررت أن أجتهد في إكتشاف السبب و لم اقم بدراسة إستقصائية او حتى أستئناس برأي الحكماء من الأصدقاء ، وبداء لى أن استشف من ملاحظاتي ومن خبرتي في مسيرة الحياة وطباع الناس في بلدي ، لذا جعلت مصدر إهدار السعادة لدى السعوديين في ثلاث جوانب هي ، ضيق الخيارات ،و ضيق المعيشة ، والخوف من المصير .

فضيق الخيارات تتدرج من محدودية الحرية الشخصية في ممارسة الخيارات المباحة بفعل التقاليد و الأطر الإجتماعية و قسوتها في قسر الفرد وإلزامه بسلوكيات و مثل لا يجد الفرد فيها قيمة ذاتية ، وبين محدودية في الحرية مؤسسة على مفاهيم عقدية ليست بالضرورة محل إتفاق مذهبي آو إجماعي ديني ، و الفرد في كلتا الحالتين يمارس تمرد على القيود التي تحكم خيارته الإجتماعية و السلوكية بصورة واعية اوغير واعية مما يجعله متوتر مشدود البال متأهب لجدال أي موقف وهذا الحالة سائدة لدى الشباب بصورة عامة و لدى من يستشعرون إستئثار فئة محدودة بممارسة رقابة شديدة وميل لفرض نمطية واحدة للحياة و الممارسة الإجتماعية .

اما ضيق المعيشة فيتجلى في جوانب عديدة ، فمعظم الناس محدود الدخل و يجد أن مداخيله تتأكل أمامه بمصاريف مختلفة فهو ملزم بمعيشة آسرته والتي لأسباب أسرية وإجتماعية وربما دينية لا يستطيع أن يحجم عددها فمتوسط ابناء الأسرة السعودية لا يزال مرتفع نسبياً حيث يتراوح بين( ٤-٦ ) ومعظم الآسر السعودية بعائل واحد فمعيار المساهمة الإجتماعية للقادرين على العمل هي (٢٢٪ ) وهي من ادنى النسب في العالم بمعنى أن خمس القادرين على العمل هم من يعمل وهذا لاشك يلقي على عاتق رب الآسرة عباً كبيراً ، وهو مايفسر إتساع دائرة الفقر في المجتمع ، هذا يضاف لإحتكار ملاحظ في العقار ساهم برفع اسعار الأراضي القابلة للسكن لمبالغ لا يطيقها معظم الناس فبات كثير من السعوديين مهموم بإيجاد سكن ملائم لأسرته و فوق ذلك يجد المواطن انه محاصر بصورة متزايدة بمصاريف وفواتير لم يحسب لها حساب ، حتى بات معظم المواطنين يستدين لمواجهة متطلبات آنية ولاشك أن الديون التراكمية للمجتمع باتت تتخطى مائة مليار تحلب البنوك منها فوائد جمة .

والخوف من المصير هو ثالثة الأثافي فعندما كنت مديراً للموارد البشرية في أحد الشركات أجريت إستطلاعاً بين الموظفين حول إمكانية التأمين على الحياة ، فوجدت أن كثير من الموظفين التنفيذيين على وجه الخصوص والذين إستطاعوا أن يرفعوا من مستوى معيشة آسرهم مهموم بهاجس الخوف على مصير أبنائة فيما لو مات او عجز عن العمل ، و الخوف من المصير لايتعلق بالخوف من الموت بل أن الخوف من المصير بعد الموت سائد لدى الأطفال فكثير من الأطفال يبلى ببعض الأساتذة الذين لاينفكون يشعرونهم بأن النار مصيرهم لإن ثوب الطفل طويل او لأنه ضحك في الصلاة في المدرسة أو انه يسمع الأغاني أو يلعب الألعاب الآلكترونية ، وكثير من الوعاظ يذكر النار في موعظته اكثر من ذكر الجنة و رحمة الله اضعاف مضاعفة حتى بلغ في بعض الناس القنوط من رحمة الله والقلق والخوف من المعصية ويجد كثير من أطباء النفس إكتأب لدى كثير من الناس مصدره القنوط من الرحمة والخوف من العذاب .

نعم نحن شعب غير سعيد لأننا نريد أن نتغير ولا نستطيع ، فينتابنا القلق والتوتر و يشتد بعضنا على بعض فهؤلا تجار جشعون وهؤلا موظفون متطلبون و أولئك متطرفون منغلقون و غيرهم ليبراليون غربيون و الجميع يقتات على الجدل و الجدل المضاد و طاسة الوطن تسخن كل يوم حتى أكاد اجزم أنه لابد من وضع ترمومتر يقيس درجة إحتقان بات يلاحظ وهو ينمو ، فلابد من وسيلة لمعالجة هذا الخلل المعيشي ، لقد كان المجتمع متجانساً في الماضي وكانت سعادته اكثر وبات اليوم متصادم وتجانسه آقل ، والحل يكمن في قليل من الرقابة الإجتماعية ومزيدا من الحرية ومزيد من الشعور بأن الحياة لها تجليات عدة والناس لم يعودوا كأسنان المشط .

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

سليمان الحسن في ذكرى وفاته الـ ٥٠



على مسرح الحياة الواسع ، تمر شخصيات تترك أثر في الأحداث التي تغير مجريات الزمن ، وشخصيات آخرى تترك أثر في النفوس يغير تلك النفوس لتساهم في دورها بتغيير الأحداث ، وكثير ما تترك هذه الشخصيات أثر تتردد آصداءه بين الناس على مر الأيام ، ولكن قليل من هؤلاء الناس من ينسحب من الحياة بصمت اخذاً معه اصداء ذلك الآثر ، احد هؤلاء رجلاً عرفته في طفولتي المبكرة ، و رحل قبل أن ابلغ الرابعة من عمري ، ومع ذلك لا زلت احتفظ بذكرى حدثين لي معه ، الأول عندما اعطاني ريالاً ورقياً كترضية ، وكان الريال مكرمشاً ،فرفضته بحجة أن الريال متسخ ، فما كان منه إلا أن اخذ الريال وانحنى على جانب جدول ماء في المزرعه وغسله وأنا اشاهد ثم سار بي حيث جلسنا تحت ظل نخلة ومدد الريال على سعفة نخل ووضعه في الشمس ليجف ونحن ننتظر تحت ذلك الظلال ، والحدث الثاني عندما طلب من والدي احضاري لزيارته وهو على فراش المرض في المستشفى ، دعاني لجانبه ، واخرج تفاحة من الدرج الذي يلي رأسه وقال لي " خذ هذا التفاحه فالطبيب يقول اذا أكلت التفاحة فلن تمرض ابداً ، وأنا اكلت تفاحتي وأخذت هذه منهم لك " فسررت ساعتها ، بأنه لن يمرض ابداً ، وكانت تلك الحادثة آخر عهدي به ، ترك الحياة قانعاً راضياً ، ولكن كان في قرارة نفسه حزن عميق ، فذكرى الأحداث التي شارك صنعها والنفوس التي ذهبت ضحيتها والأخوة و الأصحاب الذي قضوا فيها كانت تعيش في وجدانه ، كان قليل الحديث عن ذلك وإذا سئل عنها قال " كانت حامية وبردها الله ، ونحن الان في نعمة الله لا يغيرها " ، كان كثير العزلة ، حيث يحمل ابريق ماء ويرتقي تلة رملية مقابل مزرعته ، يغرس فيها ويسقي شجيرات الأثل و يقضي جل النهار بين تلك الشجيرات بعيداً عن الناس يجتر الذكريات .

ولد سليمان الحسن عام ١٢٩١هـ وعاش في مخاض الأحداث التي افرزت حركة التوحيد السياسي وتكوين المملكة العربية السعودية ، وكان لوفاة أمه المبكر جداً ، والتي فارقته وهو رضيع أثر في طبيعة نشأته فلازم والده منذ الصغر وشب منصرفاً كوالده لرعاية الخيل و التعلق بها و المشاركة في حملات الغزو والحرب ، فحضر معه معركة (عروى )المشهورة وهو لم يبلغ العاشرة من العمر وكان له دور كبير في معركة (المليدا) حيث تحمل حماية المنسحبين بعد أن بانت الهزيمة ، مما اوقعه في الأسر مع بعض أخوته و ابناء عمومته ، في سجنه الذي دام ( ٨ ) سنين تعلّم الصبر والتفكير الروي وبعد أن هرب من سجنه ، و في دمشق كان يجادل أخاه (صالح) أن لا طائل من استجداء دعم (الباب العالي ) فالأتراك قد آختاروا حليفهم في نجد ، وهو يحقق النجاح الذي يريدون وما يسمعه منهم من وعود ، ماهو إلا تجميد واضاعة للوقت وقتل لهمته ، لم يكن سليمان يحتاج أكثر من قصيدة ليثني أخاه ( صالح ) في آتجاه آخر ، فكانت القصيدة المشهورة ( الخلوج ) للشاعر محمد العوني ، و إلتم بعض أهل القصيم في الشام ليسيروا بقيادة (صالح الحسن ) نحو الكويت للتحالف مع الجيوش التي شكلها مبارك بن صباح لحرب عبدالعزيز المتعب الرشيد واسترداد حكم الآسر النجدية ، لم يكن سليمان راضياً عن كثير مما يدور في تلك الحملة ، وكان مع أخيه (صالح) يعدون للتخلي عن التحالف مع ابن صباح خصوصاً بعد استيلائهم على بريدة ، ولكن ذلك لم يحدث وجرت معركة ( الصريف ) التي قتل فيها كثير من عائلته ، منهم أخيه ( محمد ) وكان قريباً منه فحزن لذلك حزن عظيم ، وتتوالى الاحداث ويسترد الملك ( عبدالعزيز ) الرياض ، وبعد أن تستقر الحال له في الرياض ويعقد العزم على التوسع في توحيد البلاد يستحضر حلفاءه ، فيحضر سليمان الحسن مع الجيوش التي تكونت لفتح القصيم ، و في القصيم تدور ملحمة الصراع السياسي لعدد من السنين ، فتلقي بسليمان الحسن لاجئاً في العراق مدة ( ١٥ ) سنة ، ليعود بعدها رجلاً مختلفاً ، قد رمى البندقية خلفه للأبد بعد أن كانت لا تفارقه حتى في المنام ، وأختار أن يعتزل الناس في مزرعة ورثها عن والده في قرية (الربيعية) إلى أن توفي في العام ١٣٨٠هـ .

الحياة بقسوتها ومكرها علّمت سليمان الحسن الشدة على النفس وتحمل العناء في سبيل الغاية ، فلا مكان في نفسه للمتعة والدعة ، لذا كان خلال سنين لجوءه في العراق يرفض العروض التي يبديها له الأقرباء والأصحاب بالزواج من أحد بناتهم والإستقرار في حياة هنيئة بينهم ، وكان يلتهي عن ذلك بزيارات القبائل ، واستجلاء فرص التحالف في سبيل استعادة دور مفقود ، وفي يوم من تلك الأيام بلغ سليمان الحسن الخمسين من عمره ، وافاق على فكر مختلف ، فلم يعد لنضاله جدوى ، في ذلك اليوم تذكر آنه بات خلياً من الاخوان الذين أهلكهم الصراع ، ولا عقب له من صلبه ، فبات الوحيد يسأل نفسه " اما آن لي آن آلقي البندقية و ارتجي الله أن يغفر لي زلاتي وطمعي في هذه الدنيا ؟ أما آن لي أن اهجع للسكينة والأمن والصلاة لعل الله يحسن عاقبتي ؟ أما أن لي أن انجب من يحمل ذكري وذكر آبي ويسترحم لأخوتي ؟ " ، كانت الأيام تمر ثقيلة حتى جاءه خطاب ( العهد والأمان ) ، فلم ينتظر لحظة ليعود لحضن الزوجه ( لولوة السليمان العيسى ) التي تركها (١٧) عاماً تربي ابنتيه ( نورة و هيلة ) ، كان مخلصاً لها حافظاً ودها طوال تلك السنين ، وكانت أمينة في محبته ورشيدة في ماله ، فجمع الله بينهما من جديد لينجبا بنت أخرى وولدين ( حسن وحصه وعبدالله ) ، كان حريصاً على تجنيب ولديه كل ما من شآنه تعريضهم للأخطار ، فكان يحضر عليهم الجدال في أمور السياسة وما حل بأسرتهم ، وينهر من يناقشهم ذلك ، حتى أنه اضطر لحرمان ( عبدالله ) المدرسة التي كان يرتادها ببريدة عندما علم أنه يجتمع ببعض أقرانه في منزله ببريدة و يتسامرون بقصص الصراعات التي كانت ، و بعد أن شاخ به الزمان ، كان ينتظر بفارغ الصبر احفاداً بهم يطمئن لأستمرار عقبه ونسل أبيه ، وعندما حضرته الوفاة ، قال مودعاً أبناءه " ياكثر ما واجهت الموت وانا خايفٍ منه ، واليوم اشوفه قبالي وانا ولهٍ ( مشتاق ) على أهلي اللي راحوا قبلي ، الله يجمعنا وأياكم بدار رحمته " ، كانت تلك آخر كلماته قبل آن يتشهد شهادة الوفاة .

وأنا اتذكره اليوم ، بيدي قصاصة ورق من دفتر يومياته هي آخر مابقي لي من آثره ، كتب فيها بخط يده ( بسم الله الرحمن الرحيم جاء لنا هذا اليوم المبارك ١٣ ربيع الاول ١٣٧٦ الابن محمد العبدالله بارك الله به .وصلى الله على نبينا محمد )، تلك كانت شهادة ميلادي . رحم الله جدي ( سليمان الحسن المهنا ابا الخيل ) رحمة واسعة .

السبت، 29 أكتوبر 2011

ليبرالية آم حرية ، ليس هذا هو الخلاف

كثر في هذه الأيام مدَّعو الليبرالية، وكثر أعدائها، وعندما تنظر في أدبيات المدعين والأعداء تكاد تجزم بأن كلاً منهم يتحدث عن ليبرالية مختلفة عما يتحدث عنه الآخر، فمُدَّعو الليبرالية يرونها عنوان التنوير والانعتاق من قيود المألوف وعتيق الفكر والعادات والتحرر من قيود التغيير، في حين يرى الأعداء أنها حرب للدين وتملص من الالتزام بمقتضيات الشرع في التعامل والتعايش. وعندما تبحر في فلسفات الليبرالية تجد أن هناك توجهات مختلفة وطروحات متباينة تجعل مفهوم الليبرالية أشبه ما يكون بالسلطة تسود فيها الخضرة المفضلة عند صاحبها.

أنا كنت أعتقد أن الليبرالية هي حركة تمحورت حول تحقيق الحرية المطلقة للخلاص من تبعية الاعتقاد الديني ابتداء، ولكن بعد بحث وتدقيق تبيّن لي أنها حركة فكرية برزت بوصفها مفهوماً فلسفياً يبحث عن صيغة للعدالة الاجتماعية في أوروبا القرون الوسطى، حيث كانت ترزح المجتمعات الأوروبية تحت وطأة جور النظم الإقطاعية وتآمر الكنيسة مع تلك النظم. وكان محور هذه الفلسفة هو تحقيق الحرية الخالية من الإذعان، هذا المفهوم تشعب وتفصل وبات موطن كثير من الخلافات حول ما هي الحرية؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة، أو هي لازمة أو مكتسبة؟ وهل هي فردية أم جماعية؟.. هذا الجدل أفرز حركات تغيير مبنية على فكرة ليبرالية مركزية؛ فحركات التحرر الديني كانت تعتمد على حرية المعتقد، وحركات التحرر السياسي تعتمد على حرية التمثيل والتفويض، وحركات التحرر الاجتماعي تعتمد على حرية الاختيار؛ فبرزت العلمانية بوصفها مشروعاً لفصل الدين عن الدولة، وبرزت الجمهورية بوصفها مشروعاً للتمثيل السياسي، وبرزت الشيوعية بوصفها مشروعاً للتوازن الطبقي والعدالة الاجتماعية، وفي مقابل ذلك برزت حركات أخرى مماثلة ومنافسة. هذا المخاض الليبرالي هو ما صاغ الواقع الغربي المعاصر، الذي يقوم على الحرية بوصفها ركيزة لازمة للخيار الفردي.

في الإسلام لا حاجة لنا بجلب المفاهيم التي ترتبت على النهج الليبرالي؛ فالإسلام يضع الحرية بوصفها أصلاً لحال الإنسان المكلف بالإيمان والإسلام؛ فالخطاب القرآني الموجَّه للبشر بصورة فردية أو جماعية يقوم على حوار عقلي يعتمد الإقناع بالاستشهاد والتدليل، وهو ما يمنح الإنسان حرية الخيار بعقله بين ما ينفعه وما يضره {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوه بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، فالحرية هي القدرة على المشيئة، ولا يمكن تكليف الإنسان بدون تلك القدرة، فلا يجوز أن تكلف الإنسان بالطيران وهو لا يملك القدرة على ذلك؛ لذا وضع الإسلام الحرية في موضع التأسيس للتكليف، وإعفاء من التكليف مَنْ تقيدت حريته بعائق لازم كقلة الفَهْم عند صغير العمر أو فقدان العقل عند الكبير، أو العائق البدني للعاجز؛ حيث يُعفى المكلف من بعض ما لا يستطيع القيام به.

إذن يجوز الجزم بأن الحرية هي أصل حال الإنسان ليتحمل مسؤولية أفعاله، وإن ما يشط به الناس من فَهْم للحرية هو استتباعات الحرية من الأفعال والأقوال، فعندما يقدم أحدهم متمثلاً الحرية على فعل مذموم تُلام الحرية على ذلك، والواجب أن يُلام الفرد ويحاسب على الفعل، والفعل هنا يشمل القول والتصريح بمكنونات الجنان من الأفكار والأهواء، ومثار الجدل بين الفرقاء هو مساحة ذلك المذموم من الأفعال والأقوال، التي تستوجب المحاسبة، فتلك في أعين فريق ترى كبيرة تستلزم التصغير، وفي أعين فريق آخر صغيرة تستلزم التوسيع، وبين هؤلاء وهؤلاء طيف واسع، وحجج الجميع فيما يريدون معظمها مستمد من فهمهم للإسلام بوصفه ديناً ودستور حياة؛ لذا نجد هذا الخلاف متبايناً في طرح الحلول لما يواجهه المجتمع من تحديات.

هذا الحرك الفكري مطلوب، والنقاش حوله مفيد في تقريب المفاهيم وإذكاء المعرفة ونشرها بين الناس، ومع ذلك يحتدم أحياناً في صورة تفقده رصانة العقل ويشط البعض فيه؛ فيتهم ويُخوِّن ويصف الآخر المختلف بأبشع الألفاظ، وهذا أمر مؤسف؛ فاللجاج صخب لا يسمعه إلا صاحبه، لا حجة فيه تقوم، ولا علم به ينتفع؛ لذا من الأجدى أن يكون تناول مواضيع الخلاف مبنياً على حُسْن الظن بإرادة الحقيقة، وألا تكون هذه النقاشات ميادين لكسب المتفرجين؛ فكثير من التعليقات التي تصاحب بعض المقالات هي أبعد ما تكون عن الموضوعية، وكأنها صراخ مشجعي المدرجات في ملاعب الكرة.

هل تجوز الليبرالية شرعاً

ثار الدكتور عبدالله الغذامي جدلاً لا يزال محتدماً، بعد أن وصف الليبراليين السعوديين بأنهم موشومون في محاضرته «الليبرالية الموشومة»، وفي لقائه مع الدكتور عبدالعزيز قاسم في برنامج (البيان التالي) كرَّس تلك المقولة وشدد على أن الليبراليين السعوديين يفتقدون للخطاب الواضح والنضالية لمفهومهم، هذا الجدل الذي استأثر بكثير مما يطرح في الساحة الثقافية السعودية هذه الأيام، فولَّد ما يشبه مظاهرة احتجاج فكري، وأخرى محتفية بكلام الغذامي، ومتكية عليه في حراب واضح لمفهوم الليبرالية، وحيث إن هذا الجدل لم يعد محصوراً في أروقة النوادي الثقافية ومجالسها، بل إنه استولى على اهتمام الإعلام العام، وبات حديث الصحف والشارع، وبات كثير من الناس يسأل، ما هي الليبرالية؟ ومن هم أصحابها؟ وهل القول بها من باب المذموم شرعاً؟.

سبق أن كتبت في مقال سابق أن الليبرالية بدأت كمفهوم فلسفي يتناول حرية الخيار الإنساني، وحيث إن محور الليبرالية هو الحرية، والحرية هي حال وليست نشاطاً، وقد ناضل المفكرون الغربيون في سبيل اكتساب اعتراف عام بأن الحرية حق لازم لأصل كينونة الإنسان؛ فالإنسانية تمتهن قمع الحرية أو الانتقاص منها، بل إن بعض المفكرين زاد على أن جعل الحرية حق لازم لأي كائن يملك الإرادة، وكثير من هؤلاء هم رواد حركات حماية حقوق الحيوان، والسائد بين المفكرين المنادين بالحرية هو الاعتقاد بالحرية بمفهومها المطلق، والذي يقوم على إطلاق خيار الإرادة من أي قيد طارئ (أي غير لازم لقصور ذاتي)، فيكون الإنسان في خيار فعل الشيء أو عدم فعله، أو قول الشيء أو عدم قوله بناء على إرادة فكرية مؤسسة على قيم سامية وليست مؤسسة على مصالح ومخاوف أو غرائز مؤججة، لذا يحتج المفكرون الليبراليون بأن القول إن الحرية المطلقة هي إفلات للحيوانية وهدم للقيم الإنسانية المشتركة، هو قول غير مؤسس على فهم لعقيدتهم، وهم يدافعون عن ذلك بالقول إن الحرية أصل تكوين المفاهيم المشتركة، والتي تؤسس لانتشار القيم السامية؛ فالإنسان بتكوينه العقلي يدرك أربع قيم أساسية تمثل نشاطات إنسانية هي: التآلف والتضامن والتعاون وحفظ الحقوق، هذه القيم لا تكتسب فاعليتها إلا بسيادة حرية الخيار الفردي، ومن تفاعل تلك القيم الأساسية مع الواقع البيئي بما يشكله من مخاطر ومنافع تتكون القيم الفرعية وقانون العيش العام، أو ما يسمى (العقد الاجتماعي) الذي قد يشمل التشريعات العقائدية والدينية، لذا يقول معظم المفكرين الليبراليين إن الحرية المطلقة هي المؤسس لبيئة نشوء كثير من المعتقدات الدينية والتكوينات السياسية والاجتماعية، وإن العمل على كبحها أو قيدها، هو انقلاب فكري مؤسس على رغبات ومصالح لا على قيم سامية، وهو صورة من صور تكريس المفاهيم الناقصة، التي لا تصمد أمام المعالجة العقلية المستنيرة، وهؤلاء المفكرون الليبراليون لا يناطحون العقد الاجتماعي بمقولة، إنه مغلوط يجب تغييره، أو إن الحرية هي سلاح لنقض ذلك العقد، إنهم يقولون إن الحرية هي البيئة الحافظة لاستدامة تأسيس وتطوير العقد الاجتماعي، بحيث يكتسب آلية التحديث، فيعظم فعالية القيم الإنسانية الأساسية الأربع، وبالتالي يحقق السعادة للمجتمع بصورة عامة عندما يحقق حرية إرادة أفراده يؤخذ على الطرح الفكري الليبرالي، الإفراط في المثالية للدفاع عن الحق بالحرية المطلقة، فمُنظِّروه يقللون من عامل الأنانية الفردية التي يحكمها التوازن بين الطمع والخوف وليس القيم السامية، فهم يفترضون أن الإنسان بطبعه مدرك عاقل تحكمه القيم الأساسية الأربع وإن كان هناك أنانيون فهم قلة تحكمهم حالة طارئة تفترض حماية الذات، في حين يجادل المخالفون أن ذلك خلاف للتراث الإنساني التاريخي والذي أثبت أن الصراع حكم حياة البشر منذ الأزل وأن المحرك لذلك هو الأنانية الفردية، ومع ذلك فإن مقولة الليبراليين باتت مقبولة لدى أوساط كثيرة قد لا تتبنى طروحاتهم بجملتها، ولكنها تتعامل معها باحترام بغية الوصول لمفهوم مطمئن للتعامل مع الحرية، معظم هذه الأوساط هي أوساط دينية أو مذهبية سياسية، وأحد أسباب الفصام مع المفهوم الليبرالي حول الحرية وتلك الأوساط هو المكون المقدس في المعتقدات والتعاليم الدينية، وكونه لا يقبل الحلول الوسطى مع مفهوم الليبراليين حول جزئية أن الدين من مكونات العقد الاجتماعي وهو عرضة للتطوير والتحوير لتحقيق فاعلية القيم الأساسية. كما أن الليبراليين لا يقبلون اجتزاء الدين من حركة التطوير، خصوصاً عندما يكون الدين متشعب التداخل مع النشاطات الإنسانية المحققة للسعادة.

لذا فالواضح أن المفهوم الليبرالي بصورته الأصلية، يتصادم مع كثير من المسلمات الإسلامية؛ فالإسلام كمعتقد هو علاقة ربانية إنسانية مؤسس عليها العقد الاجتماعي وهو بهذا على خلاف منهجي مع الفكر التأسيسي لليبرالية، حيث يرى الإسلام أن الحرية هي خارج إطار العلاقة الإنسانية الربانية وهي مرهونة بمقتضيات تلك العلاقة، فالإسلام لا يقر بحرية المعتقد بغير الإسلام في ظل سيادة الإسلام، ولكنه يقبل في التعايش مع غير المسلمين اتقاء لصولتهم وشرهم. هذا الخلاف المنهجي بين الإسلامي والليبرالي، هو ما يجعل الاعتقاد بالليبرالية المطلقة أمر محرج لكثير من المفكرين المسلمين، فهم إما أن يخرجوا من الاعتقاد الأساسي بدينهم، أو الاعتقاد الأساسي بالليبرالية. وهو ما يجعل كثيراً من الليبراليين السعوديين يحاولون إيجاد منطلق توفيقي بين المنهجين بصورة موشومة كما قال الغذامي.

كثير من الذين ينشطون في طرح فكر تنويري تقدمي في الساحة الثقافية السعودية هم من الملتزمين بالمعتقد والممارسة الإسلامية، ومجال نضالهم الفكري هو ضمن المختلف عليه والمتشابه في المكون الديني في العقد الاجتماعي، لذا فنضالهم لا يزال تحت المظلة الإسلامية، وعندما يطالبون بإعادة النظر في شبهة أو حكم أو فتوى سابقة فهم يجادلون، أن ذلك النضال لا يطال الثوابت الإسلامية، ولكنه يحاجج حكم وأقوال الرجال من الفقهاء، ويطالبهم بالنظر فيما يساق من حجج وذلك انطلاقاً من القناعة أن الحق في الإفتاء هو معقود لهؤلاء الفقهاء والعلماء، والجدال معهم لا ينطوي على استخفاف أو إقلال، نعم هناك احتدام في الجدل وهو عملية لازمة لخلق قوة دفع فكرية تقود هؤلاء الفقهاء لتبني منهج نقدي لمجمل التراث التي تأسس على الكتاب والسنة والذي ألفه رجال قالوا ما قالوا بناء على معطيات فكرية زمنية ومكانية سائدة، لذا فهؤلاء المفكرون السعوديون التنويريون لا ينطبق عليهم التعبير الليبرالي بمفهومه المطلق، فعليهم أن يبحثوا عن صفة لهم تعبيرية وصادقة تجعل من خطابهم خطاباً مشروعاً ومقبولاً اجتماعياً وشرعياً.

صديقي والنفاق


عرفته منذ كنا زميلين في المدرسة  الثانوية , كان ذكياً سريع البديهة شغوف بأحراج الاخرين حين يصطاد منهم هفوة كلامية او غلطة لغوية , تترسم على تعابير وجهة صورة النشوة بالانتصار وهو يجادل ويكابد في دحر كل تبرير من الأخر ويصر على انتزاع الأعتراف بالخطاء واستجداءه الصفح والغفران , كان كثيرون من الزملاء يهابون صولته ومع ذلك كان يستحوذ على الأهتمام , وكثيرون منا يسعى لكسب وده , صحيح أننا كنا جميعاً نهاب مواجهاته تلك , ليس لأنه جريء متسلط ولكن لكونه عميق الثقافة واسع الآطلاع وشديد الملاحظة , وكانت مواجهته محسومة دائماً بذات النتيجة التي نخشاها جميعاً , حقيقة لم اكن من المقربين له ولم تحدث لي معه مواجهة سوى مرة واحدة عندما التقينا في أمسية لدى أحد الزملاء وتباينت مفاهيمنا حول حقيقة النفاق ومدى معذورية المنافق  , كان يرى أن النفاق محصلة ضعف المفهوم والاعتقاد لدى المنافق وهزال في المنظومة القيمية لديه مما يجعل المصلحة الآنية تسيطر عليه فيسلك سلوك ملتوي لتحقيقها من خلال التحذلق والمداهنة والكذب والانكار وهي سمات تجعل من الانسان عديم المصداقية مليص الأعتماد وهو ما يضر بالمجتمع ان تولى امر فيه مصالح للناس , وكنت أرى أن النفاق حالة ذهنية طارئة مرهونة بصراع الأنسان مع محيطه في سبيل حماية كيانه الذاتي و المعنوي تزول مع توفر ضمان حرية المعيشة والكسب والتعبير, ولأن نقاشنا كان ثقافي الطبيعة فقد تبارينا طويلاً في أظهار مخزننا الفكري والأطلاعي بالاستشهاد و التحليل الأمر الذي جعل كل منا يعجب بالاخر دون التصريح خوفاً من الاعتراف بالهزيمة , وباتت العلاقة بيننا بعد ذلك حذرة لا تتخطى مجاملات الزملاء حتى تركنا المدرسة وكل منا سار في مسلك اخر .وبعد ثلاثين سنة وعلى غير موعد التقي صاحبي في الطائرة وفي الكرسي المجاور لي ونحن عائدون للمملكة من لندن , لم اعرفه في البداية فقد تغير مظهرة الذي عهدته وكذلك انا بالنسبة له ولكن بعد ان تحدث اكثر من مرة مع المضيفة  استألفت الصوت ونبرة الحديث وكأن الزمان رجع بي إلى تلك الأيام الخوالي , فنظرت إليه وقلت هل انت أحمد فرمقني بنظرة سريعة كما عهدته وبملامح الأستغراب لبرهة قبل ان يقول من الأخ ؟ ثم بسرعة يستدرك قبل أن أجيب وبلهجة استفهامية "محمـــــد" وبعد أن حيينا بعضنا تحية تليق بما بان بيننا من السنين وكل منا أستفهم عن حال الأخر وما آلت إليه أحواله وما نتج له من عيال ومال , عدنا بالذكريات إلى صبانا ومماحكاتنا التي لم يكن لها هدف إلا إبراز التفوق على الأخر وبمضي رحلتنا الجوية استرجعنا ذلك الحوار القديم وكان هو البادئ فقال "يا ابوعبد الله أتذكر يوم تجادلت و إياك عن ماهية النفاق وهل للمنافق حق في أن ينافق " قلت " الله ! أتذكر حتى الآنخطاء.ل  "نعم " ثم سكت برهة وأطرق ليعود يستكمل حديثه " أنت تعلم أن والدي عندما توفي كنت لازلت في الجامعة  وترك عائلة قليلة الموارد , كنت الأمل لهم في تحسين معيشتهم بعد التخرج , والتحقت بالعمل في أحد الشركات الصناعية الجديدة المشتركة مع شركة أجنبية وحيث كان عدد السعوديين قليل في تلك الشركة فقد تشكلنا في صورة شلة نجتمع دورياً في منزل أحدنا وكانت تدور المناقشات حول مسائل سياسة واجتماعية وعملية وغيرها , وكما عهدتني كنت لازلت شغوفاً بمقارعة الأفكار لا أنضوي حتى أدحر الأخر , طبعاً فكرياً ,, وفي ضني أن ذلك لا يخلق للود قضية ! طبعاً كنت على خطاء .. حصل زميل لنا في الشلة على ترقية أصبح بها رئيساً لي , وكنت مسرورا في البداية لترقيته إلا أن ذلك لم يطل , فقد بات هذا الزميل الرئيس مصدر قلق لي فخلال اجتماعات الشلة كان يقاطعني بصورة يشعرني أنه الرئيس و يتصيد الفرص لانتقادي بصورة مهينة حتى تسرب إلى نفسي شعور بالهزيمة وكان مصدر ذلك الشعور قلقي على مستقبلي في الشركة ومستقبل معيشتي وخصوصاً إنني أعيل بالإضافة لعائلتي أسرتي الصغيرة لذا بت أتجرع تلك المرارة واستقصر في الحديث خشية التسكيت بل أني ابتدعت عن غير وعي سلوك أتكسب فيه رضي رئيسي و أتحين الفرص للاستشهاد بمقاله أو الثناء على حديثه دون أن يكون ذلك مطابقاً لما يختلج في ذهني " ويتوقف برهة  ثم يواصل " يا ابوعبدالله في ذات ليلة كنت عائدا بالسيارة من أحد تلك الاجتماعات بعد سهرة مليئة بنفاقي وتسطحي  , كنت ناقماً على نفسي أعاتبها على ضعفها وتهشم كبريائها وفي لحظة تستولي على صورة ذلك النقاش الذي دار بيننا و أستذكر رأي في المنافق فأرتجف سخطاً على نفسي وترتفع نبرة عتاب ذاتي بالشتم والتحقير لضعفي وسقوطي في هاوية النفاق , ثم أستدرك مقالك أن النفاق حالة ذهنية تزول بزوال مسببها " يتوقف عن الحديث و تشتد تعابير وجهه وتتطارد أنفاسه متسارعة  ويستطرد " يا أبو عبد الله كان مقالك هو المخرج , فلم ابلغ البيت إلا وقد عزمت على أن أحرر نفسي من ارتهانها لتلك الحاجة المذلة فكان أول ما فعلت في الصباح التالي ابلغ زوجتي بقراري الاستقالة من العمل والانتقال إلى الرياض , وكان ذلك أعظم قرار في حياتي " , لم استطع أن اخفي دهشتي من رواية صاحبي وتحول كل منا لفكر الأخر فعلى مر السنين مررت بعدد كبير من الناس لم يتعرضوا لضغوط  تملي عليهم النفاق بقدر ما احترفوا ذلك كوسيلة للاكتساب وتحقيق المأرب عن سابق تخطيط وترصد . لذا يبدوا أن النفاق ليس حالة ذهنية بل هو حالة وجدانية تحدث لدى الإنسان بمجرد أن تضعف منظومته القيمية ويبعثها للظهور تقلبات الحياة ومصالحها .

آداء كالطلقة



لطالما شغل الأداء الإنتاجي الفردي والجماعي بال الكثيرين, كيف يؤدونه وكيف يحسنونه وكيف يقيمونه فأمسى لدينا عشرات الطرق والوسائل لتحسين الأداء وأصبح هناك عشرات النظريات ومئات الأدوات الخاصة بقياس الأداء وتقييمه وما هذا إلا دليل على غموض مفهوم الأداء الإنتاجي بصورة عامة .
هناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الجهد والمثابرة لذا فهو مرتبط بالنتائج , وعلى ذلك يميل هذا الفريق لطرق كمي  , ويهتدي بالنظريات والجداول الإحصائية و يعتمد على القياس والمقارنة و ربط الخطط بالمتحقق , وهناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الوجدان , لذا فهو مرتبط بالرغبة للتعلم والتغير إلى الأفضل لذا يعتمد هذا الفريق على تهيئة البيئة المناسبة للارتقاء بالمعرفة والمهارة , وكلا الفريقين يعتمد على وسائل وأساليب  ثبت بالتجربة تحقيقها انجازات تدعم إدعاء  كل منهما , وما برح الفريقين في جدال حول كليات وجزئيات مفاهيمهما وكغيري ممن افتتن بدراسة وفهم هذه الظاهرة الإنسانية والتي تسمى "الإحسان في العمل"  وجدت نفسي لفترة من الزمن متأرجحاُ بين المفهومين و كنت في كل مرة انتقل للعمل في مؤسسة جديدة , أواجه بمهمة وضع معايير لتحسين وقياس الأداء , وكان ذلك سهلاً من الناحية التنفيذية  فما يلزمني سوى اقتباس نموذج معد سلفاً من قبل مؤسسة أخرى وأجراء بعض التعديلات الطفيفة ثم اعتماده , إلا أن ذلك كان يمثل لي تحد فكري , فمهما أجريت من التعديلات , ولو بلغت تحوير كاملاً لتلك لأداة التقييم , إلا أنني أبيت غير مقتنع بجدوى تلك الأداة , ويشكل على تقبل ذلك , وخصوصاً عندما يحين موعد تقييم الأداء وارى الحيرة في وجوه المشرفين المسئولين عن تقييم مرؤوسيهم وتتناهى لي جدالات الموظفين حول العدالة في التقييم والضن بالنيات المبيتة  .
أن هذا التجاذب الذهني الذي عشته  ردحاً من الزمن , دفعني إلى القناعة بأن الظواهر الإنسانية من الصعب تنسيقها على نمط , فالعوامل المؤثرة في محصلة التفاعل الإنساني كثيرة ومختلفة الاتجاه و القوة لذا من الصعب الإلمام بكل تلك العوامل واتجاهاتها و شدة تأثيرها , وأصبحت من المشككين بجدوى أدوات قياس الأداء بالصور السائدة والتي تتمثل في تقييم فردي وبصيغة قضائية ,حيث يقوم المشرف بوضع نقاط قياسية لمعايير معدة سلفاً لسلوكيات و سمات الموظفين لا تتناسب مع طبيعة أعمالهم والعوامل المؤثرة في أدائهم بالضرورة , وتؤدي إلى قرارات مؤثرة في حياتهم المهنية .
لذا وبعد بحث جهيد لا مجال هنا لتفصيلها , اهتديت لنموذج يصف الأداء بالصورة التي يقرها فكري , وحيث أميل لمذهب النظم في التفكير فقد بات علي اعتماد منهج للأداء متكامل العناصر فمداخلاته تتمثل في الموارد المسخرة له من قدرات بشرية و أدوات و مواد و أموال ومعايير وقوانين المعالجة والتحوير والتغيير و صفة محددة للمنتجات والتبليغ المستمر عن حال طباق المستهدف بالحاصل . هذا النموذج الذي بات رهين مراجعاتي على مر السنين العشر الماضية , أجتاز شكوكي واختباراتي واقتنعت بجدواه و بات يمثل محور تفكيري حول تحسين الأداء وقياسه , ولزمني أن أعلنه على الأقل بالصيغة المختصرة التي تناسب وضعه في مقال .
أداء كالطلقة , هو تشبيه لما يمكن أن تحققه المؤسسة التي تتبنى هذا النموذج فهو يصور أداء المؤسسة كطلقة باتجاه هدف , يحثها القدرة والقوة الكامنة في انطلاقها وتخترق القوى الخارجية المواجهة لها لتصل للهدف بالدقة والسرعة المتحققة من تفاعل قدرتها و تحدياتها . هذا النموذج يتمثل في الشكل الموضح  ويقوم على عناصر أساسية هي :

 





تحديد الهدف , وهذا يتحقق بوضع رؤيا ورسالة للمؤسسة , فالأداء الإنتاجي موجه بطبيعته , وأن لم يحدد له هدف مكتوب فالهدف يتبلور في صورة ذهنية تسكن عقول الملاك و المدراء والعاملين , لذا يتفاعل كل منهم بما يستهدفه من طموحات وأمال و يكون هناك بالضرورة قاسم مشترك لتلك الطموحات والآمال , لذا يكون من الأجدى لو أعلن هذا القاسم المشترك وبات هو الهدف المشترك للجميع .
·      تحسين المدخلات , هناك تعبير يستخدمه متخصصي الحاسب الآلي للتعبير عن ارتهان صدق وجودة مخرجات المعالجة الحاسوبية بالمدخلات فيقولون " إذا ألقمت الحاسب اللآلي قمامة فستحصل عل قمامة مخرجات " وهذا ينطبق على جميع صيغ المعالجة بما فيها المعالجة البشرية فالأداء البشري بغض النظر عن مدى ضبط تفاعلة يضل مرهوناً بجودة المدخلات  من مرافق وموارد مادية ومحفزات معنوية .
·      البناء الاجتماعي للمكون البشري , بمقدار اختلاف الناس في توجهاتهم وأساليبهم ,إلا أنهم بحاجة لمعايير تضبط سلوكياتهم وتقنن تفاعلاتهم - حيث لا يعتدي القوي منهم على الضعيف - وتخلق لديهم شعور بالاطمئنان يرفع عنهم هاجس القلق على مصيرهم ,وكمحصلة لذلك يتحقق في أذهانهم صورة للعدالة تبعث في نفوسهم الرضا والحماس على تحسين واقع العمل . وينمو لديهم شعور بالانقيادية للتوجه الذي تختطه المؤسسة والالتزام بمنهجها .
·      البناء المنهجي للعمل , ويتمثل ذلك في وضع النظم و القوانين التي تحكم العملية الإنتاجية واستخدام الموارد بحيث تحقق الحدود المقبولة من حماية العاملين في صحتهم و معاشهم و حقوق المالكين في رعاية وصيانة ممتلكاتهم وتعظيم العائد النفعي من استخدام الموارد .
·      تحسين الكفاءة ويكون ذلك في شحذ همم العاملين على الاكتساب المعرف و بناء المهارة و تيسير وسائل وظروف التطوير الذاتي , ووضع سياسات و طرق لربط ذلك في الترقية والمكافأة , بحيث يجد العامل الفرصة في التقدم في العمل من خلال الجهد والوعي بدوره في العملية الإنتاجية وتكوين القدرة على النقد الذاتي و المعرفة بسبل تحسين الأداء الذاتي و ربط ذلك بالجهود الجماعية لفريق العمل .
·      إدارة البيئة المؤسسية . أن العمل ضمن أطر تنظيمية  و هيكلية تقسم فيها الأدوار و المهام و تتسلسل فيها التوجيهات يخلق واقع تعاملي بين العاملين يوظفون فيه قيمهم و سلوكياتهم ومفاهيمهم على نحو يحقق لهم القدر المقبول من الحرية الفردية و التعاون الجماعي في سبيل أنجاز الهدف المشترك وبقدر ما تختلف مشارب العاملين وأهدافهم بقدر ما تمثل تلك البيئة من تحد لكيان المؤسسة وقدرتها على الأداء الأمثل لذا لابد أن يتم صرف جهد أداري لبناء بيئة مؤسسية فاعلة في تنمية الأداء ومراقبة ما يطرأ على تلك البيئة من تغيرات .
·      تطوير نمط القيادة . في كل مجتمع من الناس لابد من وجود شخص أو أشخاص تناط بهم القدرة التوجيهية لذلك المجتمع بحيث تتحقق تطلعات المجتمع إلى معيشة أفضل وحماية أفضل بفضل القدرات الكامنة في ذلك المجتمع , لذا تكون المهارة القيادية في القدرة على التعرف واستخلاص القدرات الفردية والجماعية للمجتمع وتوظيفها بصورة تضافرية لتحقق الهدف المنشود وبعث الحماس والثقة في المجتمع على الالتزام بتلك التوجهات , وبقدر ما يمارس القادة ذلك بتقانة عالية بقدر ما تتحقق الجودة في تحقيق الهدف , لذا لابد من تولية أمر القيادة وتطورها اهتمام بالغ.
·      التنسيق وخلق التوازن . قد يكون من أدق النشاطات المؤسسية هو تنسيق التوازن بين مكونات العملية الإنتاجية بحيث يتم توظيف القدر المناسب من الموارد وضبط تناغم تضافرها لتصبح أشبه ما تكون بجوقة من العازفين المنتجين لمقطوعة موسيقية تشنف الأذان , والتحدي في تنسيق التوازن المؤسسي يكمن في عدم وضوحه كمهمة منفردة فهو نتاج لوعي و إلمام بمدى تناسب مكونات الإنتاج المؤسسي والأهداف و البيئة الخارجية للمؤسسة المتمثلة في العملاء وتوقعاتهم والمنافسين وخططهم والجهات التنظيمية وبيئة النشاط العام بصورة شاملة .
أن أي مؤسسة تروم أن ترتقي بأدائها إلى أفاق جديدة يضمن لها التميز والقدرة على تعظيم عائدها النفعي مطالبة الآن أكثر من ذي قبل بتبني هذا النموذج أو أخر يحقق نفس النتائج ويلم بجميع العوامل المؤثرة في العملية الإنتاجية. هذا النموذج تم استعراضه باقتضاب مراعاة لضيق المساحة فلم يتم التطرق للعملية التطويرية الإجرائية ولا شرح مسهب لفلسفة تقييم وتقويم الأداء والتي سيتم الإسهاب فيها في كتابات لاحقه .

جراحة في رأس رجل


صاحبنا يعاني من صداع مزمن في رأسه , يلم به شديدا في كل مرة يحتار فيما يختار , أيقول ما يريد أو ما يجب أن يقال وصاحبنا ذلك الرجل , بدأ حياته صادق الطوية ساذج الضن , يرى ما يصُنع ويسمع ما يقال فيجول في خاطره ألف سؤال , دفعت به لأستكناه جوابها من عمل عقله , فبات كثير الفكر والتأمل لعله يهتدي لخير حال .
ذهب صاحبنا إلى الطبيب يشكو علته التي أوجزها بقوله " يا دكتور لقد آلمّ بي هذا التناقض فبت مشتتاً بين ضمير يريد إصلاح و أنجاح أساسه عدل في النظر وصدق في القول وتغليب للحق , وهوى يريد كسب غير محدود يقوم على سطوة النفوذ وحجة القول ونباهة الحيلة , ولكل حجة وبرهان فضميري يستشهد بالقرآن وجبلة الله خلقه على حب الخير وإحقاق الحق , وهواي يسخر من تلك السذاجة ويدعي بأن الحياة صراع من أجل البقاء القوي فيها سيد مطاع على ما يقترف من رزايا , فسطوته تبدد كل ضن , وكليهما يجادل لحيازة معاني العدل والرحمة والحقيقة والصدق عندي , فالضمير يرى أن العدل شرع الله في الناس يحتكم له و به تستقيم أمورهم ما عليهم إلا الانقياد له لتكتمل سعادتهم , والرحمة هبة الله للقلوب بها يدفع الناس عن بعضهم الآم الدنيا , والحقيقة هي ذلك النور الذي به نرى ونميز فلا نتيه أو نتشتت , وأما الصدق فهو وصف حقيقة الأشياء والمعاني , ومع أن ما يبديه الضمير حري بالقبول والاحترام , إلا أن الهوى يسخر من ذلك ويعتبر الضمير حالم غير واقعي , فهو يدعي أن كل المعاني هي من اختراع الإنسان ولا معيارية لها فالعدل المطلق غير موجود ولا يمكن أن يحدث في واقع تختلف فيه عوامل التأثير في العلاقات بين الكائنات فالقوة والحاجة والحيلة وقلة الموارد المتوفرة بغير جهد كلها تجعل العدل نسبي وما أضل من ترميز العدل بالميزان فالميزان متجانس التكوين و المؤثر في كفتيه واحد هو قوة الجاذبية , أما في واقع التعاملات فالعوامل المؤثرة كثيرة وتوزيع تأثيرها يخضع لمفاهيم مسبقة على تقييمها , لذا كل يرى العدل من جانبه وبهذا يستقيم تعايش الناس فالحاكم يرى العدل في عقاب المعتدي وذلك يرى الظلم في عقابه والتجاوز عن غيره . لذا يكون العدل عدلاً بمقدار القدرة على إلزامه , أما الرحمة فهي دفع لشعور الخوف من ذات المصير, وتعتمد على واقع العلاقة بين الراحم والمرحوم ومدى القدرة على رفع العناء عند الراحم وهي ليست سوى مشاعر أنية تزول بزوال الموقف أو استدامته , فمن يرحم جريحاً يتألم ويسارع لنجدته هو نفسه الذي يتمشى بين مئات الجرحى من الأضداد في معركة المكتسبات , لذا على الإنسان الواعي إدراك أن الرحمة دلالة ضعف تدفع الإنسان للتخلي عن مكتسباته بجدارة الأخر على استعطافه , إما الحقيقة فهي ليست نور كما يدعي الضمير , وإنما هي ترجمة ذاتية لهوية الأشياء والمعاني بناء على مفاهيم مسبقة تأسس كل منها في ظروف مختلفة وبمشاعر مختلفة فمن يعتقد بدوران الأرض حول الشمس هو لم يلمس تلك الحقيقة بصفة مباشرة ولكنه أستشعرها من مقال مصدوق لديه , لذا فالحقيقة هي ما نقرر أنه حقيقة مقبولة , وأما الصدق فهو القول بما يطابق ما ندعي أنه الحقيقة ولا أحد غير الله يعلم ما في قرارة النفوس,  والتاريخ لنا شاهد بخلافات من شُهد لهم بالصدق في القول والنزاهة في الفعل والقصد في الهدف , فلو كان لديهم معيار موحد لما اختلفوا. ويكمل حجته بأن علي أنا أتباعه , فما لطالب العلا إلا أن يقتنص الفرص كما تقتنص الطرائد , شيمته  الوعي والحذر وسلاحه ما يناسب من ترسانة الغاية تبرر الوسيلة .
يا طبيبي العزيز ,لقد بات في قرارة نفسي رغبة في التخلص من هذا الشغب في ذهني فعزمت أمري ان اضع راسي على طاولة عملياتك فتفتحه وتبحث عن آي من الاثنين ذلك , الضمير المؤرق أو ذلك الهوى المزعج ,فمتى ضفرت بأي منهما فأنزعه نزع قوي مقتدر لعلي اخلص من ذلك الصداع المؤلم ."
فكر الطبيب واجمع ضنه بان الرجل غير سوي النفس  وعزم الأمر أن يسترسل في حواره لعله يهتدي لمكمن علتة النفسية , فبادر الطبيب صاحبنا بسؤال الحائر " ولكن إذا نزعنا الضمير فستكون أسير هوى مستبد ربما يوردك المهالك بجسارته وتهوره فتكون غولاً على الناس تفتك بهم وتستحل حرماتهم , وإذا نزعنا الهوى فستكون حبيس ضمير حذر يحسب الأمور بألف حساب فيصيرك ناسك للمعاني طوباوي النهج قليل الحيلة , فينتهي بك الأمر لقنوط وخمول ربما يدفع بك للفتك بنفسك ". و أومأ الطبيب بيديه للرجل كما لو كان يستحثه  الإجابة , حيث بداء له أنه احكم الحيرة لديه فبات الرجل في فناء الاعتراف ليكشف للطبيب مكامن نفسه المتوترة .
نظر الرجل للطبيب نظرة المستجمع قواه للمنازلة ثم اطرق ناظريه للأرض و بابتسامة مصطنعة بادر الطبيب " أتضني مجنون أو لدي خلة من وسواس ؟" وقبل أن يجيب الطبيب تابع و كأنه لا يريد إجابة " يا دكتور سأشرح لك مكمن علتي حتى لا تضيع الوقت في استفهام صحة عقلي " وسحب الرجل الكرسي في زاوية الغرفة وجلس قبالة الطبيب واخذ نفسا عميقا قبل أن يقول " سيدي الطبيب لا اعلم حالك ولكني اجزم أنك واحد من ثلاثة , فالناس على اختلاف مشاربهم ومللهم لا يملك واحدهم إلا أن يكون رهن جذاب هواه وضميره , فمنهم من يستسلم لديه الهوى للضمير فينقاد لسلوك تكسوه الطيبة والقناعة والعطاء والرحمة للكائنات بما فيها الإنسان ومنهم من يستسلم ضميره لهواه فيصبح شديد الطلب للمكاسب والمتع أناني الحيازة غايته سيادة ذاته على من سواه و أما الثالث فهو من توازن لديه الحوار بين الهوى والضمير وبات كل سلوك لديه نتيجة لتفاهم بين الاثنين , وهو ما كنت اطمح له , فكنت أعتزل في بعض أوقاتي وأترك الاثنين في حوار يعلو وينخفض , ولا أخفيك أنني كنت أعزز ذلك الحوار فأدعم كل منهم بمطالعة فكر الفلاسفة والزهاد وأحبار علوم الدين حتى بات كل منهم حصيف البيان قوي الحجة , ومع مرور الوقت شسع بينهم البين , وأصبح كل منهم يحتقر الأخر ويمقته وبات كل منهم يقتنص الفرص ليستبد بقراراتي , فأمسيت قليل التجانس في عقلي كثير التناقض في سلوكي , أستجلب لنفسي استغراب الآخرين من قلة ثباتي على نحو. يا سيدي الطبيب أتكل على الله وحضر منشارك فقد بت قاب قوسين أو أدنى من أن تنفصم ذاتي."
فضحك الطبيب , بعد أن تبين له أن علة صاحبنا ليست من اختصاصه. 

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

خالي المتعجرف


من حديث طويل مع جاري في مقعد الطائرة ، قال لي عندما توفيت أمي لم يحضر خالي للعزاء ، على الرغم من أنه كان على علم بمرضها ووفاتها،و مع أنه خالي الأصغر لأمي وهي من تولى تربيته ورعايته بعد وفاة جدتي ، لم آري خالي منذ أن ترك العمل في شركة ارامكو منذ اكثر من عشر سنوات ، حيث أنشاء مزرعة صغيرة له في قرية جدي في القصيم ، لذا قررت أن أسافر للإطمئنان على صحته وأعزية بوفاة أمي ، فهو كان لها بمثابة الأبن ، وعندما بلغت القرية سألت صاحب محطة الوقود التي عند مدخل القرية عن طريق مزرعته ، فنظر لي بإستغراب وهو يتسأل "ماذا تريد من ذلك المخبول ؟" فقلت مستجدياً لطف الرجل " إنه خالي " عندها تبسم وهو يحاول الإعتذار عما سببه من إحراج لي " خالك رجل غريب الأطوار ، لا يحب اهل القرية و لا هم يحبونه ، ولا أحد يجروء على الحديث معه ، ينعت الناس بالغباء و الحماقة ويتكلم بكلام يغضب الله " كان حديث الرجل مقلقاً لي فلم آعهد خالي كذلك ، نعم هو حاد بطبعه وهو سبب عدم زواجه حيث كان يقول لأمي "إن أي إمرأة تحترم نفسها لاتستطيع العيش معي وأنا لاأريد إمرأة لاتحترم نفسها " وما عدا ذلك فهو رجل كريم وشهم وصاحب نكتة ، لذا لم أتقبل كلام الرجل وقلت في نفسي لربما كان على خصام مع خالي ، فتصنعت إبتسامة مجاملة للرجل وطلبت أن يدلني على طريق مزرعته فمهما يكن فهو خالي .

كان باب المزرعة مفتوح على مصراعيه فولجت بسيارتي ، وسرت في الطريق للمنزل الذي كان في أقصى المزرعة ،وعندما هممت بالترجل من السيارة وإذا بصوت منفعل يأتي من بعيد " هيه من أنت وماذا تريد ، وكيف تدخل من غير أن يؤذن لك " فترجلت من السيارة وسرت بإتجاه مصدر الصوت فأطل خالي من بين الأشجار مرتدياً قميص وبنطال قصير وأنا اتبسم مرحباً به ،  فتوقف غير بعيد وقال " ماذا تريد ؟" فوقفت مستغرباً تصرفه ، ومستدركاً أنه ربما لم يعرفني فقلت " انا خالد يا خالي !” فرد على متجهماًِ " أعلم أنك خالد وأعلم أن أمك قد ماتت فلماذا أنت هنا " لم أتمالك نفسي من هذا الجفاء فأجهشت بالبكاء وأنا اقول له " الا تشعر ببعض الحزن على من كانت ام لك ، اليس لديك مشاعر تجاه من فقد آمه وآتى ليعزيك أنت عوضاً عن تقبل العزاء منك ، الا تقدر تجشمي مشقة السفر للإطمئنان عليك " ضل واقفاً يستمع لنحيبي دون أن يبدي مايعبر عن تعاطف أو تقدير لمشاعري وعندما شعر أني جاهز لتقبل حديثه قال " انا لا احب الزيارات المفاجئة ، ولا احب الحزن والبكاء ، ولا احب تذكر الناس الذين تركتهم خلفي ، ولا احب أن يسأل آحد عني ، أو يفتقدني فأنالست مسلياً ، ولااحب أن اكون كذلك ، لذا لا تحملني جميلاً كونك تجشمت مشقة السفر ،فزيارتك لاتهمني ، وامك ماتت فلم تعد بحاجة لي ولا انا بحاجة لها ، وكونك ابن اختي لا يعني أني ملزم بمجاملتك ، لذا إن لم يكن لديك ما يفيد فعد من حيث أتيت " لم اتمالك نفسي من الغيض فقلت له " تباً لك من اخ او خال ، لقد كان صاحب محطة الوقود صادقاً فيما قال ، فأنت آحمق ومتغطرس ، ومع ذلك لن اعود ادراجي حتى اعرف لماذابت هكذا بعد أن كنت شخصاً آخر ؟ " تبسم متحدياً وكأني قد وقعت في مصيدته " امهه ، قابلت صاحب المحطة وقال إن خالك مجنون ، وجئت تستطلع ذلك ، وها أنت تآكدت أن خالك مجنون ،فإرحل ودع خالك المجنون لجنونه " فقلت له " لا لن آرحل حتى أعرف الحقيقة ، حقيقتك وحقيقة جنونك " فقال متحدياً مرة آخرى " وهل تعرف ما معنى الحقيقة حتى تستفهمها ؟" قلت " نعم " فقال مسترسلاً بتحديه " قل لي ماهي الحقيقة وما ذا تعني لك "  فقلت وقد باغتني السؤال "الحقيقة هي الثابت من العلم " فضحك ضحكة مصطنعة  وقال " أرأيت أنت لا تختلف عن البقية ،تنظرللمعاني  من منطلق أناني فتقرر أن الحقيقة هي الثابت بالنسبة لك ، فأنت من يقرر حقيقة الآشياء حولك لإن نظرك لها سطحي و كذلك معظم الناس وهو ما يجعلهم في صراع لأن كلٍٍ يرى الحق بجانبه ، وماهو حق في نظرك اليوم لايكون كذلك عندما تتغير مصالحك وحاجاتك ، لذا لاتتكلم عن الحقيقة وأنت لا تعي ماهي" فسارعته برد يناسب غروره " منك نستنير انا اليوم بين يديك ارشدني . ماهي الحقيقة ؟" عندها رمقني بعين حادة وهو يقول " آعلم آنك تستهزئي بي ، ولكن إعلم أنني ما تركت الناس إلا إتقاء حماقاتهم وإستخفافهم ، لإن ماأقوله يستلزم ذهن متقد وعقل ناقد وروح قلقة لتقبله ، ولا أعلم إن كنت أنت كذلك " شعرت بحرج حقيقي فما كان قصدي إلا إستدراج له حتى يلج في خرفاته كما قال لي صاحب المحطة ، لذا قلت له معتذراِ " ارجوك أن لا تؤاخذني بزلتي وإعدك أن استمع لك بعقل واعي وذهن صافي " اطرق قليلاً ثم قال "حسناً ،، أنظر لهذه النخلة مماهي مكونة منه ؟ " فقلت "جريد و جذع " فضحك وقال " لا لا ،،، أقصد مكوناتها الأدق " قلت " ماء ومركبات عضوية متعددة " قال " نعم هي كذلك ولكن ماهي المكونات الأدق من ذلك " فقلت " أتقصد العناصر الأولية كالكربون والاكسجين ؟ قال  " بل الأدق من ذلك " قلت " ليس هناك أدق من مكونات الذرات كالبروتون والنيوترون والألكترون " ابتسم إبتسامة المنتصر وقال " بل هناك ماهو ادق ، ولكن لنكتفي بما قلت ، لونظرت لهذه النخلة من حيث مكوناتها الدقيقة ، مالذي يفرقها عن محيطها من الهواء والماء والتراب  ؟" لم آفهم ما كان يرمي له لذا قلت " لم افهم ماذا تقصد " فقال " سأجيبك ، الواقع ان لاشي يفرقها عن محيطها من حيث المكونات الأساسية ، وما ميزها بالصورة التي تراها إلا إنتظام تلك المكونات بصورة مختلفة عما هو في محيطها ، لذا فالحقيقة التي ميزت النخلة عن محيطها تكمن في النظام الذي رتب المكونات بالصورة التي بدت لك فيها النخلة ، اذا الحقيقة هي النظام ، أما المكونات فهي متماثلة ولو تبعثرت بصورة عشوائية لما بات هناك شئ مميز ، فلو نزعنا النظام من المادة لنزعنا الوجود برمته وباتت المادة هباً منتشراً " وقبل أن ينهي كلامه نظر لي بعينين متسعتين وقال " ستقول ماهو النظام ؟ وانا اقول لك إن للنظام مكونات دقيقة تتكون من مكونات أدق حتى تصل لوحدة النظام الأدق والمتمثلة في الدائرة ، الأن اذاكنت كما قلت متقد الذهن واعي العقل فلن تسألني عن أي آمر بعد هذا " ثم تركني و اقفى  وهو يقول "عد من حيث أتيت ،ولا تعدني مرة آخرى فلا يروقك حديثي ولا يروقني جهلك  " كنت مصدوماً بحديث خالي وتجريديته الجافة ، ومستاء من تعاليه وتعجرفه ، ولكن في ذات الوقت كنت متشوقاً لسماع المزيد من تحليلاته ، فهو يرى العالم حوله بصورة مختلفة ، وبغض النظر إن كنت اتفق أو أختلف معه كان صاحب ذهن وقاد وروح قلقلة ، تركته وأنا عازم على أزوره في العام القادم .

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

إنقلاب في مملكة للنحل


في ذات يوم وفي مملكة للنحل أنطلقت نحلة من أفراد المملكة لمكان قصي عن عش المملكة وأسترخت على جذع شجرة تفكر في كيف تنعتق من النمطية الحتمية لحياة النحل , وباتت تتأمل في أنطباعتها التي تراكمت من خلال مقارنة حياة النحل بحياة الأنسان وكيف أن الأنسان يتمتع بحرية كبيرة من القيود الأجتماعية مقارنة بالنحل الذي لايستطيع أن يتصرف إلا من خلال أطر محددة ومرسومة لجميع النحل , لذا تبادر إلى ذهنها أن الوسيلة الوحيدة تكمن في الانقلاب على النظام السائد لدى النحل وتكوين نظام جديد ,
كان للنحلة الثائرة صديقة طالما ناقشتها أفكارها تلك بصورة تقليدية محافظة , فالصديقة ترى أن النحل جُبل وتعود على نظام وعلاقات ترتبت خلال آلاف السنين وباتت أساس كيان النحل فمتى تخلى النحل عنها لتكوين نظام جديد فذلك نذير بفناء جنس النحل لأنه لم يعتد النظام الجديد ولا يعرفة والتحول له سيربك العلاقات بين النحل و سيزرع بذور الشقاق والخلاف ويؤسس لمذاهب وطرق جديدة كل صاحب أحداها يدعي الكمال وينصب العداء للأخرين فيتناحر الأتباع و تنقلب حياة التعاون و الأنتاج التي عرف بها النحل لحياة العداء والقتال والخديعة و التشتت . كانت النحلة الثائرة ترى في ذلك التفكير تحجر ضمن الأطر التقليدية وخوف من التغيير وتلبيس الرتابة والجمود بقدسية الخصوصية , لذا كانت تقول لصاحبتها " أي خصوصية تتحدثين عنها نحن حشرات كباقي الحشرات ولكننا قيدنا أنفسنا بنظام بات لا يخدمنا بقدر ما يخدم من يستعبدنا وهو الانسان , فهلا تخليتي عن ذلك وباشرتي النظر للجهة الأخرى حيث النحل حر طليق يقرر ما يريد ويقول ما يريد يتمتع بالحياة و يسعد بإرادته كل يوم عوضاً عن الأنتظام بعمل ممل رتيب لا يتجدد ولايجدد إلا هماً وعناء لنا , فحياة النحل مملة مضنية لاطائل من أستمرارها بصورتها الحالية , فماذا قدمنا نحن النحل للدنيا منذ الأزل ؟ لاشئ سوى العسل وهو ما نشقى لأنتاجه فيؤخذا منا خديعة ونستمر في أنتاج غيره ليؤخذ من جديد , فبالله عليك اليس هذا هو الغباء بعينه , ومع الأسف أن قيادة النحل المتمثلة في الملكة لا تصنع شياً ولاتقدم مبادرات لتحسين واقع النحل فهي مستأثرة بمتع الحياة دون النحل , وهي لا تعمل و تجتذب كل الذكور لمتعتها وتستأثر بالأنجاب , ياصديقتي النحلة نحن مظلومين مهزومين مستغلين داخل مملكتنا وخارجها لا سبيل لخلاصنا الا بالتغيير" .
باتت تلك النحلة الثائرة تتحسس الشكوى التي تبث لها من قبل باقي النحل حول كثرة العمل وقلة الراحة و متطلبات الخضوع للنظام وترتب في ذهنها الحجج التي ستصيغها للدعوة للأنقلاب , وبعد أن نضجت لديها تلك الحجج بات تستفرد بكل نحلة على حدة ولا تتركها إلا وقد أوغلت حججها في نفسها فباتت جاهزة للأنضمام لدعوتها وكانت تحرص على التوصية بكتمان الأمر وهكذا كانت تفعل مع كل نحلة تختارها حتى بلغ عدد النحل المتسق مع طرحها عددا لايستهان به فحزمت الامر على أعلان العصيان وحث النحل على الأنقلاب على النظام وماهي إلا سويعات حتى بات الأمر تحت يدها وتشتت أمر الملكة ومن معها وصارت النحلة الثائرة صاحبة القول والسلطان وفي الحال كونت مجلس قيادة برئاستها وعضوية من كان أطوع النحل لها وصدرت الأوامر بإقامت الأفراح والحفلات اغتباطاً بإنتصار حركة التغيير و المساواة و انصرف مجلس القيادة لترتيب النظام الجديد , حيث يلزم صياغة العلاقة بين مجلس القيادة وعامة النحل المواطنين , وهكذا أعلن أن لمجلس القيادة كافة الصلاحيات ومطلق الأرادة في تسيير شؤون بلاد النحل وأن من يخالف ذلك أو يحتج عليه فهو ممن تعلق قلبه بالوضع القديم وبات رجعياً مندرس الفكر لابد أن يعاقب على ذلك.
أستمرت الحفلات أيام وأسابيع وهي طويلة في حياة النحل , فالنحل ينتظرالتوجيهات من مجلس القيادة و يخشى العودة لسابق طريقته في العمل فيتهم بالرجعية و عداء حركة التغيير والمساوة ,والمجلس لازال يناقش الوضع الجديد المراد للنحل , لذا توقف أنتاج العسل وبات النحل يعتاش من العسل المنتج في الماضي وكثرت لدى النحل أمراض الكأبة و فقدان الثقة بالنفس و غياب الدافع للعمل فتفشى الكسل و كثر النوم وتوترت العلاقات بين النحل حول أقتسام مخزون العسل وبات النحل في صراع مع بعضه البعض وبات التقرب من مجلس القيادة هم الجميع بالعلاقة مع اعضاء المجلس تحدد القيمة الأجتماعية للنحل ضمن المجتمع, وهكذا سادت الطبقية في مجتمع النحل فبات محورياً قطباه اصحاب الذوات و المنبوذين وتبدد مجتمع النحل حول ذلك المحور.
هذا الواقع دفع النحلة الصديقة لمجابهة النحلة الثائرة وقائدة حركة التغيير والمساواة بسؤال صريح ومحدد " هل حسبتي تحول النحل لحال كهذه قبل أن تقدمين على الدعوة للتغيير والمساواة ؟ وأذا كنت فعلاً حسبتي ذلك فهل لديك خطة لأعادة النظام و لمّ النحل من جديد في مجتمع سليم التكوين ؟" كان رد النحلة الثائرة ثورياً و تخوينياً لصديقتها " ياصديقتي التي أرجو أن تكون لا زالت صديقة وفية , أنت لازلت معلقة بالماضي و يجهدك التفكير بحرية , أن ما نحن به هو حال طبيعية للتغيير , فالتغيير لا يحدث إلا عندما نهدم الواقع و نخلق فوضى تحدث حالة قلقة وغير مستقرة في أذهان النحل و تشكل ضغطاً نفسياً على النحل ليتقبل وينسجم مع النظام الجديد الذي نصوغه الأن , فكل ما عمت الفوضى أصبحت الفرصة أكبر في تقبل النحل للنظام الجديد , لذا أطمئنك كما ترين أني أعددت لكل ذلك وما ترين هو ثمرة ذلك التخطيط , لذا فالخيار لديك أما أن تكوني في صفنا صف الناجحين او تكوني مع الخاسرين ,حيث لابد أن تتركي هذا الجدال الذي به تحسبين نفسك من الحكماء " لم يرق ذلك الرد المتعالي للصديقة فبادرة صديقتها الثائرة بقول أرادته أن يكون الأخير بينهما " صديقتي العزيزة , كنت أتوقع أن التغير الذين تريدينه سيؤثر في كل شئ حولك حتى علاقتك مع نفسك ومع من هم أعزاء لديك , لذا أريد أن يكون هذا القول هو أخر ما أبوح به لك كصديقة ومن قلب صادق في محبته لك ومجرد من مخاوفه منك , حيث لا اضمن بعد اليوم صفاء سريرتي التي سيطالها التغيير لامحالة , ياصديقتي لقد عبرتي بالنحل بحر مجهول القرار و النهاية وأجزم أن في نفسك وجل وخوف من المصير وتدفعين ذلك بما قلتي من قول غلفتيه بالتهديد والوعيد وحققتي أنتصاراً مؤقتاً حين دحرتي سؤالي , ولكن همك و خوفك ما برح يتقد في نفسك ولازال بها مقيم , فانا لست الخطر الداهم عليك , ياصديقتي بدلاً ممن تمارسي الهروب الى الأمام وتدفعين النحل للتوغل في ذلك اليم المجهول , عودي لما كنا عليه , عودي فالعود عن الضلال بداية الهداية , نحن النحل مجتمع له خصائصه التي تقوم على وحدة المجتمع وتخصيص المهام للأفراد , وما تدعين له وتعملين على تكوينه يقوم على أنانية فردية ليست من طبيعتنا ولانملك مهارة ممارستها بما يضمن سلامة المجتمع وسعادة الأفراد , أنت تتمثلين المجتمع الأنساني وتعجبين بما حقق من تطويع للطبيعة , ولكنك تنسين أن الإنسان بطبعه أناني مارس تلك الأنانية طوال بقاءه الزمني على الأرض ونمت لديه مهارة ممارسة تلك الأنانية فكون المجتمع الأنساني معتمداً على ما يحققه الأجتماع من فوائد أنانية تتمثل في الحماية و الإنتظام في تراتبية هرمية في مجتمعه وطور آلية بها يستطيع أن يحقق النجاحات التي تقوده من قاع المجتمع الى قمته بمافي ذلك الصراع بينه وبين الأخرين من بني جنسه , هذا النظام هو ما طور حياة البشر وجعلهم متنافسين ضمن أطر تحفظ الكيان الذي ينظم تلك التنافسية بينهم وهو ما يسميه البشر ( العقد الأجتماعي ) , لذا وبجانب ما يمضية البشر من وقت لإكتساب مقومات التنافس الحياتي بينهم من أختراع وصناعة وعمل يمضون وقت أطول في صيانة وتقويم وتعديل ذلك العقد الأجتماعي الذي ينظم حياتهم ويمارسون ذلك من منطلق أناني لذا يهتمون بالحرية في القول والعمل والأعتمادية الفردية , والنقد والرقابة والجدال , ويهتمون بالرئاسة لتعميم مفاهيمهم و مطالبهم وهم في نقاش دائم حول ما يجب ترسيخه وما يجب تغييره , هذه طبيعة البشر ,الأستئثار طريقتهم في الحياة والنزاع والصراع بينهم محتدم إلى الأزل وادواته بينهم فكرية وأقتصادية وكثيراً ما يجهز بعضهم على الأخر بأعتى وأفتك الأسلحة وهم يتقدون بأن الحياة صراع من أجل البقاء للأفضل . أما نحن النحل فليست لدينا تلك النزعة الأنانية , حتى أنه ليست لدينا أسماء تحددنا ولاسمات خاصة لكل منا نحن كلنا نحل متماثلين في كل شئ , وكل منا لديه دور محدد في مجتمعه لا ينبغي ان يغيره او يتخلى عنه لذا لامجال للصراع بيننا فكل منا يضيف للمجتمع ولسنا بحاجة لقتال بعضنا من أجل الأستئثار بممتلكات أو سلطات , هذه جبلتنا ولايمكن أن نكون غير ذلك , وما تعتقدي ان النحل بحاجة له , ليس الحرية و القدرة عن التعبيرعن الذات , بل هو الحاجة للراحه بعد العناء وهو ما لايمكن ان يتحقق , فالعناء هو الدافع للعمل , فلو تحققت الراحه لما بات هناك داع للعمل , والعمل والكد سمة نظامنا الذي بات مضرب المثل عند باقي الخلائق وكذلك الشكوى التي هي سبيلنا للتعبيرعن الأجهاد , لقد أساءت ياصديقتي فهم شكوى النحل وأعتبرتيها نداء للتغيير , و بادرتي بتغيير حياة النحل فباتوا في ضياع وقلق عندما طلب منهم ممارسة مالايعرفون ولا يتفق مع تكوينهم , وفقدوا قدرتهم على تكوين المجتمع المتماثل والمنتج , وأصبحوا في صراع محتدم بينهم سيدمرهم كأفراد وكمجتمع, ياصديقتي أنظري للنحل وسط مجتمعات الحشرات فالنحل يمثل قمة التنظيم والتطور بقدرته على بناء المجتمع المتسق مع كينونته البنائية , أعتبري بأبن عمنا الذباب الذي يتمتع بأنانيته ,ماذا حصّل , على الرغم من قدرته الهائلة على التزاوج والتفريخ ؟ , أنه شقي بالعمل مشتت الوطن مطارد بالصيادين من جميع الزواحف و العناكب والمبيدات التي صنعها له البشر , فباتت حياته شقية وقصيرة , عودي لنظامنا السابق فلا مصلحة لنا في عبثية الديموقراطية , فماذا نجني من حرية لاقيمة لها , و جدال لاطائل من وراءه , و فردية لا تقود إلا إلى هلاكنا , وليكن هذا القول هو أخر عهد لك بالحق أن شئتي الأستمرار فيما تفعلين ".
لم تستجب النحلة الثائرة لصديقتها فنشوة الأنتصاروالطموح للمجد والخوف من المصير كانت تمثل محصلة مربكة للتدبر العاقل للواقع , وأستمر الوضع المتأزم للنحل يستعر والصراع يحتدم حتى أدرك معظم النحل أن الواقع الحالي بات أسوء من أن يحتمل فهاجر من هاجر لممالك أخرى و قضى من كان ضعيف الحال وماهي الا أيام حتى تشتت المجتمع وأحتلت الوطن مملكة نحل جديدة وبات ذلك الأنقلاب في مملكة النحل قصة تروى في تاريخ النحل .
محمد المهنا ابا الخيل

أسير عقله

في احد الأيام لاحظت انني افتقد احد الأصدقاء منذ فترة  .حيث لم يتصل بي منذ ما يزيد عن الثلاثة أشهر على غير عادته , كما لم الاحظ وجوده في الأجتماعات الدورية التي تكون بين ثلتنا . فطراء لي أن اتصل به لأسأل عن حاله و فعلاً أتصلت ومراراُ ولكن لا مجيب لهاتفه على الرغم من توالي المكالمات في اوقات مختلفة . وهنا اتصلت بمن اعتقد انه أكثرنا قرباً به نحن الأصدقاء . وبلغني من الصديق الأخر انه ليس افضل حظاُ مني بمعرفة ما بصاحبنا وخصوصاً انه بلغه من احد زملائة بالعمل انه استقال منذ أشهر ولم يعد هناك وسيلة لسبر علمه الا بالذهاب الى بيته وهذا ما حدث حيث اصطحبت اثنين من الأصدقاء وذهبنا ذات مساء لمنزل صديقنا المفقود . وبعد طرق وجيز لبابه فتح الباب و كان لطيفاً كعادته استلمنا بالسلام و السؤال عن الصحة وصحة العيال و طلب منا الدخول لمجلس البيت الذي بداء عليه بعض الهجران فالغبار يكسو بعض الحاجيات و قد لاحظ أدراكنا ذلك فبادر بالأعتذار حيث ان العائلة غير موجودة بالبيت منذ مدة و انه لوحده و مقتصر على العيش في بعض البيت ويصعب عليه رعاية البيت بمفرده . لم نخفي الدهشة من تلك الحقيقة ولاحظ هو ذلك فأردف قائلاً اطمئنكم ان الأمور على ما يرام و لم يحدث لي او للعائلة أي مكروه ولكن هناك امر الم بي فلم اعد اريد الا ان اتفرغ له و حتى لا تستبقوني بما لديكم من أستفسارات اريدكم ان تعلموا اني لا اتعاطى اي مسكر او مخدر او مفتر او منشط ولم اعد اشرب الشائ او القهوة او الدخان او اي شئي عداء الماء و الغذاء واهتم في توازن مكونات غذائي ليدعم ذلك صفاء ذهني وصحة بدني كما اني لا ارد على المكالمات الهاتفية و اكتفي به للأ ستفسار من زوجتي عن أبنائي و أمي . و لا اخرج من البيت الا لشراء احتياجاتي الغذائية و سداد فواتير الخدمات . بقي ان تعلموا ايضا اني لست مريضاً بداء بدني او نفسي ومشاعري متزنة تجاه الأخرين و تغمرني سعادة بما انا فيه . و لا ارى انني سأغير ما انا علية فلا تكدوا انفسكم بجهد اقناعي بسلوك مغايير . و كما ان زيارتكم سرتني الا اني اريد منكم عدم تكرارها وحث الأخرين على عدم المجئي لي و السؤال عني . و ارجو ان تعذروني في ان لاأقدم لكم ما يقدم عادة للضيوف . والأن سأقول لكم ما هو أمري ليس رغبة مني في الشرح و الأقناع ولكن أشفاقاُ على حيرتكم وارجو ان لا تقاطعوني بالأستفسار عن فحوى كلامي او تجادلوا فهمي او تحتجوا علي بقول او فعل لسابق كما ارجو بختام حديثي ان تنهوا زيارتكم لي و انتم مشكورون .

انني منصرف لأاستجمع ذهني لأدراك عقلي وسبر متناقضه و ترتيب متماثله اطرح لنفسي أسئلة صعبة و أسجلها على جدران بيتي و اجادل نفسي عقيدتي فأكون الناسك المؤمن و الشكاك الثائرفي أن واحد , اخوض في كل حوض واشط حتى ابلغ منتهاه و استلهم الحقيقة فأحلجها بظواهر الشك حتى تنتفش و أشد على عقلي في أن يذهب مذاهب جديدة في الأستدلال  و الأستنتاج  و ان لايركن لمسلمة حتى يصطليها بأتون البحث والتمحيص  لذا اعيش في انقطاع لوحدي في هذا البيت واجعل لي  يوم من الأسبوع يكون يوم صفاء من كل فكر فاترك بهيمتي وفطرتي تعتريني فلا ابالي اين او كيف  انام او أكل , يقودني هم اللحظه  ودافع الشهوة فلا اهتم بتمييز ما انا عليه و لا استدرك وضع افضل مما انا به , غرائزي هي السيد لي  . وفي اليوم الذي يليه ازيل أثار بهيمتي و أرتقي بحسي ومشاعري فأستذكر من أحب وأصور لنفسي ذكريات الوفاء ولحظات الصفاء فأشفق حتى يؤلمني البكاء وفي باقي ذلك اليوم استحضر حقدي وغيضي وكرهي و استذكر مواقف الأذلال التي تعرضت لها  والخذلان ممن شددت بهم ظهري والظلم الذي أرزحت نفسي تحت ثقله  فأهتاج بالغضب و اترك لنفسي حرية التعبير الجامح بالصراخ والسباب والعويل حتى يهدني الخوار وفي اليوم الذي يلية اترك الندم يأخذني كل مأخذ فأتذكر اخفاقاتي في الحياة وضيق حيلتي في معاشي و اخطائي بحكمي على المواقف  وظلمي للأخرين و أجلد ذاتي تأنيباً حتى انوء بحملي من الندم و الشعور بالذنب . وفي اليوم الذي يليه احلق في سماء الخيال و استجلب الصور التي أحلم بها فأنعتق من قيود الزمان والمكان و ارسم صوراً في ذهني تجعلني في غاية السرور وازور الأكوان التي لاتوجد الا في خيالي و احادث الناس الذين اخلقهم في ذهني و اصوغ حديثي لهم وردودهم لي و استمتع بمحبتهم و طاعتهم لي فأكون الملك المتوج بينهم الباذل لهم القادر عليهم . وفي اليوم الذي يليه اتقمص دور المصلح فأخوض في شئون الناس منتقداً معيشتهم رافضاً  ممارساتهم  اقترح لهم الحلول و التمس لهم القيم التى اراء بها أستقامة عيشهم . استنتج الحجج  لرائي من بطون الكتب ابحث عن شاردة أستشهدبها  او دليل احمي به مقالي . وفوق منصة اعتليها أنافح عن مكارم الأخلاق و أشد على المرازئي بالتنديد و التحقير.  و في اليوم الذي يلي ذلك اتقمص دور المجرم المخادع والظالم الجسور اخطط للآنتقام و ابرر الظلم و أحتقر الناجحين في الحياة واستحضر العذر لي في سلبهم  اموالهم وارواحهم  وفي اليوم الأخير من الأسبوع اكون العقل المتجرد الفاحص ادقق في الملاحظات والكتابات التي دونتها خلال ايام الأسبوع حال تجلياتي الذهنية و اصوغ منها معطيات جديدة و استنتاجات بها ادرك كل حالة و اناقش نفسي فيما برز لها من الأفكار .و اكتب لنفسي ملاحظات حتى اعالجها في تجلياتي  واستجلي تناقضاتي الذهنية , اصوغ حلولاً أربطها بقيد  منطقي او اشذب منها ما لا يستقيم مع النسق الفكري الذي ارتضيه , وادرب نفسي على قبول صياغة جديدة لمسلمات فكرية جديدة بعد كدها كدود اللدود . هذا اليوم  يصادف يومنا هذا الذي تزوروني فيه اجعل فيه يوم الانفتاح على العالم الخارجي ففيه اخرج لشئوني وازور عائلتي  واتصرف من خلال عقلي المتجدد فأكون في كل يوم يداور هذا اليوم شخص بمنهاج وفكر جديد.

الان وقد علمتم علة اختفائي وبات سري لكم مكشوف ارجو ان يبقى هذا السر حكراً عليكم و ان لاتبوحوا به حتى أأذن لكم , ولا يسعني في هذه اللحظة الا أن أستأذنكم في العودة لخلوتي وتمنياتي لكم بحسن المعاش و ان لا تشغلوا بالكم بما سيؤل له أمري .

خرجنا ونحن في ذهول أشد مما دخلنا به و لككنا اتفقنا ان نحقق رجائة بطي الأمر بلفافة النسيان و لكن وبعد مرور 20 عاماً على لقائنا هذا بصاحبنا اردت ان أستفسر عما حدث له فقيل لي انه بعد لقائنا ب5 أعوام خرج وجمع اقربائة الأقربين و ابلغهم أنه بات ملك لعقله و انه يرغب في أن يستزيد في التأمل لذا ارد ان يخلصهم من تبعيتهم له وتبعيته لهم فأسلم لهم كل ما يملك من الدنيا من متاع وأستخلص لنفسه منهم العتاق من كل رابط فعاهدهم وعاهدوه على النسيان وانه لهم كأن لم يكن . و أرتحل من يومه فلم يعلم اين بات وأين اصبح .

السبت، 22 أكتوبر 2011

الموت والحياة


لي صديق امريكي احرص على أن التقيه مرة كل سنة على الأقل عندما اقضي إجازتي في الولايات المتحدة ، و عندما كان يسكن مدينة ساد ديجو في ولاية كاليفورنيا كنت اسافر للقاءه من سان فرنسسكو حيث أقيم في المعتاد ، هذه السنة وبعد أن إستقر في ميامي فلوريدا اصر هو أن يحضر لزيارتي ، ونحن على مائدة العشاء ، تطرق بنا الحديث حول فقدان الأحباب والتعامل مع الحزن العميق (Grief) ، فقال ، منذ ٣ سنوات وعندما كنت في رحلة عمل لمدينة فينكس بولاية أريزونا الأمريكية وبعد الهبوط في المطار وصلتني رسالة قصيرة تفيد بوفاة صديق عزيز ، تملكني الحزن وبدت ملامحي بالتعبير عن ذلك ، وبعد خروجي من مبنى المطار كان في إنتظاري من قدمت لزيارته مستقبلاً ، علاقتي بجعفر تعود لأربع سنوات خلت ، حيث نعمل سوياً على تطوير نظام إلكتروني لتتبع الموجودات وجعفر هندي هاجر للولايات المتحدة منذ ٢٠ عاماً وأقام عمل ناجحاً له في فينكس ، نظر في وجهي وقال " أننت مريض ؟ ، ماكان عليك أن تأتي وأنت بهذه الحال ، أريد منك بالاً صافياً لا آنفاً ممتلاً !” إغتصبت إبتسامة مجاملة لطرفته ولكن مشاعر الحزن أقوى من أن تبقي آثر تلك الإبتسامة فقلت " لا لست مريضاً ولكن وردتني أخبار سيئة بمجرد وصولي المطار ، فقد توفي صديق عزيز على وإنتابني الحزن عليه ، لا آكثر " رمقني بنظرة حانية مصطنعة وهو يقول " آوه ، أنا آسف لفقدك " ثم نظر إلي ساعته و إلتفت إلي بملامح جادة تشوبها إبتسامة مكبوته وقال " هل أنت جائع " قلت " ليس بالسوء المعتاد ، فماذا تقترح ؟" قال " إنه وقت الغداء ، وبدلاً من تناول ساندوتشات تينا ( سكرتيرته ) سأخذك لمطعم حميم ، لعله يسليك بعض الشئ" ، و بعدما ركبنا السيارة في إتجاه المطعم قال لي " مايكل ، ساذكر لك قصة لم تعرفها بعد ، هي قصتي آنا مع الحياة والموت " نظرت له بإهتمام قائلاً " حسناً ، آنا مصغ ! " فأردف قائلاً " قبل أن أقدم لهذه البلاد ، في الهند مررت بتجربة فقد عظيمة ، و تملكني حزن عميق سيطر على عقلي وفكري لفترة طويلة ، فكما تعلم في الهند معظم الزواج وخصوصاً في المناطق الريفية يتم من خلال ترتيبات الآهل ، فالأهل هم من يختار الزوجة وما على الإبن إلا تنفيذ رغبات الأهل ، وعندما كنت أدرس في ( IIT Bombay ) في ضاحية بوي قرب بمباي خطب والداي بنت احد كبار المزارعين في قريتنا القريبة من حيدر اباد لتكون زوجة لي وبعد أن تخرجت من المعهد ، تزوجتها وإنتقلتها للعيش معي في بانجلور حيث حصلت على وظيفة في شركة ( Bharat Elctronics limited) ، خلال ٣ سنوات نمت بيننا مودة وحب وتعلق كل منا بالآخر ، وكنت احقق نجاحاً في وظيفتي حيث أوكلت برأسة فريق تطوير نظام تنظيم إلكتروني للإحتراق الداخلى لصالح شركة تاتا للسيارات ، وكنت اعمل ساعات طويلة في المعمل وكثير ما اعود للمنزل بعد العاشرة ليلاً فأجدها تنتظرني للعشاء و قد أكون قد أكلت وانا في طريقي ، فاعتذر عن مشاركتها ، لم تكن تتذمر او تشتكي وانا اتركها تأكل لوحدها ، رزقنا بطفلة بعد زواجنا بسنتين ، فكانت الطفلة تأخذ الكثير من وقت زوجتي ، ومع إنشغالي بالعمل و إنشغالها بطفلتنا لم يكن لدينا الوقت الكثير نقضيه في التعبير عما يكن احدنا للأخر ، بات مشروعي يتأخرفي التنفيذ بفعل تغييرات في فريق العمل وبت اعاني من ضغوط ذلك ، وبت سريع الإنفعال حول شؤون المنزل فإقترحت أن تأخذ الطفلة وتسافر لقريتنا ، فهي لم تزر آهلها منذ اكثر من عام و بذلك ايضا تترك لي المجال لإتفرغ لإنجاز مشرعي ، فوافقت على ذلك بدون تردد ، وهكذا حجزت لها مقعداً في القطار المتجه لحيدر اباد . وكان عليها أن تستقل الحافلة مدة ٣ ساعات من حيدر اباد لتصل لقريتنا ،لذا تم الإتصال بآهلي حتى يرتب إستقبالها في محطة (حيدراباد كاجيقودا)، فأرسلوا لإستقبالها آخي الصغير ..” توقف عن الحديث وقد تغيرت ملامح وجه وبرزت عيناه تلمعان ، لم يلتفت إلي كما كان يفعل إثناء حديثه بين الفترة والآخرى وهو يقود السيارة ، بل تجمد في نظره للطريق كما لو كان ينظر مشهد مؤلم ، فما كان مني إلا أن وضعت يدي على ساعدة لإطمئن عليه متسألاً " جعفر ، هل انت على مايرام " فنظر لي نظرة سريعة وعاد لنظرة الذهول وهو يقول " انا ، على مايرام ، أني فقط استجمع ذاكرتي ، فدعني قليلاً " صمت عن الحديث وأن ارقب تعابير وجهه تكترب ثم نزلت دمعت ترقرت على وجنته سرعان ما مسحها وهو يلتفت لي معتذراِ بإبتسامة مصطنعة وهو يقول " المعذرة ، منذ زمن طويل لم استجمع هذه الذاكرة المؤثرة ، لقد شب حريق في تلك الحافلة عندم إصطدامها بشاحنة محملة بالكيروسين وفقدت زوجتي وبنتي وأخي الصغيرفي ذلك الحادث " توقف عن الحديث مرة آخرى ثم سرعان ما عاد لإكمال قصته " طار عقلي عندما علمت بذلك وتملكني الغضب الشديد على كل شي ، نفسي ، عملي ، آهلي ، وبعد إنقضاء العزاء ، مكثت في القرية بضعة اسابيع ، وكنت حزين جداً ، لا اشعر برغبة لعمل آي شئ سوى التسكع بين الحقول والطرق ثم اعود منهكاً لإنام ، لم يكن نومي منتظماً فربما انام في الليل ويستمر نومي حتى آخر النهار فأستقيض طوال الليل ، كنت لا آحب آن يذكر اي شئ عن زوجتي وبنتي ولا اريد النظر للصور ،بل أني انفعل وآصمت من يتحدث عن أي شئ يقود لذكرهما، حتى بات آهل القرية يتحاشون الحديث معى ، ذهبت لبانجلور ولم أذهب لمنزلي خوفاً من الذكرى، وقصدت الشركة التي آعمل بها وطلبت نقلي للعمل في بلد آخر , فتم نقلي للعمل في مصنع للشركة في مدينة بون (Pune) ، وجدت في عملى الجديد ملاذ عن الذكرى ، فكنت اقضي الساعات الطوال في العمل ، حيث كنت مهندس تطوير في قطاع الرادارت ، - وهذا سر بروزي في هذا المجال – حيث اصبح العمل هو حياتي وكنت لا اذهب لمنزلي إلا لإنام ، وكان يخدمني في المنزل شاب قروي ، كنت انسى إسمه احياناً ، وإنقطعت عن زيارة أهلي في القرية قرابة السنتين تخللها إتصالات هاتفية قليلة ووجيزة ، في العمل نمت علاقة صداقة مع احد الزملاء من مهندسي التطوير ، وكان كثيراً ما يدعوني لمنزله فأعتذر ، كان يتحدث كثيراً عن عائلته و يشيد بإنجازات أطفاله ، وذات يوم كنا نتناول الشاي في كفتريا المصنع فقال لي " ياجعفر كل الزملاء يعتقدون أنك رجل طيب ، ولكن غموضك يريبهم ، انا اقربهم لك ، ومع ذلك لا اعرف عنك إلا إسمك وانك من حيدر اباد ، فما سرك ، الديك عائلة وهل لديك ابناء ؟ أين تسكن ؟” لم ادع صديقي يكمل آسئلته فنظرته له بغضب وقلت له اصمت ، اصمت ، ثم إنطلقت هارباً عائداً لعملي واوصدت غرفة المعمل التي اعمل بها بالقفل حتى لايتبعني بأسئلته ، توالت محاولات صاحبي وهروبي ، حتى حاصرني ذات يوم وقال " أنت تتهرب من حقيقة في حياتك و لن ادعك حتى اعرفها " ساعتها داهمتني قشعريرة غريبة شلت جسدي لثانية أو اقل ثم إنتابني بكاء شديد وتوتر في اطرافي وضيق في النفس ، فخارت رجلي عن حملي وسقطت على الأرض ، فأسرع صديقي يطلب النجدة من باقي العاملين ، لم يغمى علي كما كان يعتقد، لقد كنت واعياً لما يحدث حولي ولكن نوبة البكاء إستولت على فلم يعد لى جهد غير البكاء المرير ، وسحبت نفسي نحو زاوية الغرفة ألتجي بها وسط ذهول جميع العاملين الذين إلتموا حولي ، وإقترب صاحبي لي وهو يقول " لا عليك سنعالج الموقف ، وطلب من احد الزملاء إحضار كوب من الماء ، ثم جلس امامي متربعاً وهو يرمقني ويردد " لا عليك سنعالج الموقف " لم يكن لي جهد أن اقول أي شئ ، لقد ظن الجميع أن بي مساً من الجنون ، ولكن صاحبي كان يدرك أن ثمة آمر عظيم في نفسي ، فطلب من باقي العاملين الإنصراف ، حينها شعرت بنعاس غريب ورغبة في النوم ، لقد كنت مجهداً فإضطجعت على جنبي وشعرت ببرودة البلاط في خدي و غطيت في نوم عميق ، لم افق منه إلا واناعلى سرير عيادة المصنع ، فبات الطبيب يسألني عماذا اكلت وشربت خلال الايام السابقة ، كان ضغطي منخفض وحرارتي مرتفعة ولدي شعور بالغثيان ، حين حضر صاحبي واخذ الطبيب جانباً يشرح له حالتي ، مكثت في سرير العيادة حتى اليوم التالي ، حتى عاد ضغط الدم لحالة وزالت حرارتي و صرف لي الطبيب بعض الأدوية المهدية و المعالجة للإكتأب ، بعد ذلك الحادث جلست مع صاحبي وافضيت له بقصتي ، ولكني بقيت اكره الحديث عن ذكرياتي وأتهرب من الأسئلة حول عائلتي ، وفي ذات يوم قال لي برداش " صاحبي " اريدك أن تذهب معي لزيارة حكيم (Guru) معتكف في احد الجبال القريبة ، وإنطلقنا منذ الفجر يوم الأحد وبعد وصولنا للقرية القريبة من معتكف الحكيم (Retreat) تسلقنا الجبل وبعد ساعتين تقريباً وصلنا لغايتنا ، استقبلنا الحكيم بالترحيب ودعنا للجلوس متربعين في حضرته ، ثم نظر إلي مبتسماً وقال " يا جعفر ، ااتعبك تسلق الجبل ؟" قلت قليلاً ، حيث لم اعتد ذلك . قال " نعم ، لذا انت بحاجة للراحة قليلاً " وهو يهم بالقيام طلب منا الجلوس ، وغاب بين الأشجار ثم عاد بعد قليل وفي يده عصاء غليظة ومزودة بها بعض الحاجيات ، ثم طلب منا النهوض وقال " هناك لكل واحد منكم عصاء غليظة ومزودة كل منكم يضع بها ما يشاء من مما يجد من الطعام والشراب" ، فنظرت لصاحبي وقلت له " انت اخبر مني فعلمني ماذا اصنع " فإ ختار لي بعض من خبز الذرة الجاف ومطارة ماء وفعل هو كذلك وكان الحكيم يرمقنا ونحن نتحاور وبعد أن تجهزنا ، قال الحكيم " سنصعد الجبل حتى قمته فإتبعاني " نظرت لصاحبي وهمست له لقد اجهدنا حتى وصلنا لمعتكفه فما باله يطالبنا بالصعود اعلى ،هز صاحبي كتفه وهو يقول "لا بد أن له غاية من ذلك " ،إلتفت إلينا الحكيم وكأنه إستشعر عدم رغبتنا في الصعود قائلاً " اذا كنتما غير راغبين في الصعود فيمكنكما المكوث هنا حتى اعود " فقال صاحبي للحكيم " لا أيه الحكيم ، غايتنا صحبتك والإستفادة من حكمتك فسر بنا حيث تريد " فسار بنا الحكيم صعوداً في ممرات ضيقة بين الأشجار وبعد أكثر من ساعة من الصعود بصمت بين الأشجار وقف الحكيم على رامة صغيرة وإلتفت إلينا وهو يرى في وجوهنا الإجهاد من الصعود وقال "إكنتما قد تعبتما فلا زال بإمكانكما التريث هنا حتى اعود فلم نبلغ نصف مسافة غايتنا " فنظر لي صاحبي وكأنه يستحثني أن اقول مثل ما قال قبل ساعة ،فقلت للحكم " غايتنا أيه الحكيم صحبتك والتعب حالة وتزول " فنظرإلي الحكيم برضى ثم تابع المسير صعوداً وبصمت كما كان ، وبعد أن بلغ فينا التعب مبلغة وبات لهاثنا يفوق صوت حركت اغصان الأشجار التي نبعدها عن طريقنا فوقف الحكيم مرة أخرى ونظر إلينا وقال " ادرك انكما تعبتما من الصعود ولكن الغاية لا زالت بعيدة فإن شئتما تابعنا المسير او إسترحنا قليلاً " فتناظرت وصاحبي وسبقني صاحبي بالقول للحكيم " غايتنا صحبتك فإن شئت أن تسير وإن شئت أن تستريح فنحن سنتبعك " فقال الحكيم " حسناً إذا سنستمر في المسير " كنت اظنه سيشعر بتعبنا كما قال ويستريح بنا قليلاً ولكنه تابع صمته و مسيره ولكن بعد قليل من سيرنا تقلصت عظلات فخذي فجأة وشعرت بألم حاد فصرخت من الألم وتوقفت ثم جلست على الأرض امسج فخذي وانا أتآلم ، وجلس صاحبي بجانبي يلتقط أنفاسه ، عندها وقف الحكيم وقال " لقد وصلنا غايتنا الآن " نظرت للحكيم بإستغراب وقلت " استميحك العذر آيه الحكيم ، ولكنك كنت تقول قبل قليل أن غايتنا لازالت بعيدة و لا آري في مكاننا هذا ما يجعله غاية فاالاشجارلازالت تحجب الرؤيا والجبل لازال شامخاً فوقنا !” فضحك الحكيم وقال " الغاية ياجعفر ليست مكان ولا زمان ، الغاية هي إنعدام القدرة اوالإشباع ، لقد بلغت غايتك فلم تعد تحتمل صعوداً آكثر وبلغت انا غايتي حيث اشبعت رغبتي في إنهاكك" قال ذلك وسط ذهولي من صفاقته وهو يلقي بمزودته ويسوي مكان جلسته ثم يتربع في جلسته و يطلب مني ومن صاحبي أن نقابله في جلسته ويخرج كل منا قدراًمن خبزه ويشرب قليلاً من الماء وكل ذلك بصمت مطلق وعندما فرغنا من الأكل والشرب قال الحكيم موجهاً كلامه لي " جسد الإنسان هو مسكن روحه فكل ما كان المسكن جميلاً ونظيفاً وقوياً وصحيحاً كان أسعد للروح ، فالروح تشقى في الجسد المريض والضعيف والقذر والبشع ، والروح تشقى بالتعب وتشقى بالغضب وتشقى بالحقد وتشقى بالحزن ، والروح لاتحتمل الشقاء فتهجرالجسد المريض ليموت ، وتكسل الجسد الضعيف فيتوق للراحة وتدفع الحقدوالغضب للإعتداءوالتدمير لتخلص من الهم و ولكن ماذا تفعل الروح بالحزن وهو من طبيعتها وحال من حالها ، الروح تهرب من شقاء الحزن بالنسيان فتدفن الذكرى المحزنة تحت اكوام الذكريات الأخرى وتحرس مدفنها بتجنب ما يثير تلك الذكريات ، فإذا استثيرت تلك الذكريات رغماً عنها تظطرب الروح في مسكنها، فتجهد الجسد وتمرضه و تدفعه للحقد والغضب ، ولا تستقر حتى تعود تلك الذكرى لمدفنها ، روحك يا جعفر مضطربة ولن تستطيع أن تعيش بتوازن مالم تطوع روحك على التعايش مع حزنك ، انتم المسلمون تؤمنون بالآخرة ففيها يجتمع الأحبة بعد الفراق وتتوق فيها الأرواح للسعادة ، هذا يبعث في الروح الآمل ويساعدها على تحمل شقاء الفراق ، فكل ما تحتاجه هو أن تبعث حزنك ليتقد من جديد ولكن في حضور ذلك الإيمان ، فتجد الروح عزاءها " كنت استمع والخوف يعتريني من أن تأتيني حالة القشعريره ، لقد دخل في تشريحه منطقة المحذور . ادرك سريعاً ذلك حين رأني أتمتم وترتعد شفتاي ويتدفق الدم الحار في وجهي ويشتد الضغط في رأسي فقال مسترسلاً " لا بأس أن تعبر عن حزنك ،ولكن اياك أن تهرب ، افعل كما صعدت الجبل رغماً عن إرهاقك ، دع مشاعرك تتدفق بكرم ولا تحتبس منها ما يحرجك ، انت بين الأشجار و الجبال حرر روحك من قيد العقل واطلق لها العنان دعها تأمل ، دعها تحلم ولكن اياك أن تهرب إياك أن تسمح لها بدفن ذكرياتك ، ياجعفر مشكلتك أنك لم تكن حاضراً عندما حدث الحادث المؤلم ولم ترى بعينك ماجرى فلم تقبل فقدانك وهربت من ذلك الواقع بتصنع النسيان ، والأن عليك أن تستحضر الأحداث التي ألمتك وفي كل مرة تقول في قرارة نفسك لن آنسى ، وإستذكر ذكرياتك الجميلة مع زوجتك وطفلتك كلما تذكرت الحادث المؤلم ، وإستشعر الأمل بلقائهم في الجنة " لقد كان لحديثه وقع السحر في نفسي فهدأت ثورتي وتصبب العرق من وجهي وشعرت بالراحة في جسدي وكأن عبئاً ثقيلاً قد إنزاح مني ، ففرحت فرحاً غامراً حتى قمت واقفاً وانا ارقص وانا اردد الحمد لله ، الحمدلله ،ثم اقبلت على الحكيم اقبل رأسه وصديقي يرقص معي ، ثم قام الحكيم وقال " هيا بنا نعود ادراجنا قبل أن يهبط الليل "وخلال مسيرة عودتنا لمعتكف الحكيم عاد لصمته وانا وصاحبي نهمس بين بعضنا البعض عن سعادتنا بزوال حالتي وعندما وصلنا لمعتكف الحكيم إلتفت إلينا وقال " اذهبا للقرية قبل أن يحل الليل فالجبل غير مأمون من السباع " فاقبلت على الحكيم اشكره وأستأذنه أن اعوده مرات آخرى حتى اكتسب من حكمته فقال لي " لابأس ولكن في المرة القادمة ستكون غايتنا قمة الجبل إن رغبت بصحبتي " ، بعد ذلك عدته مرات عديدة حتى توفي وعدت لطبيعة حياتي وبعد هذه الحادثة بثلاث سنوات ، قدمت لإمريكا للعمل لدي شركة جنرال دينمكس وتزوجت سلمى كما تعرف ولم اعد اخاف من تذكر زوجتي فاطمة وابنتي بل ان لدي في المنزل صورة لهما في غرفة نومي ” بعدما خلص صديقي من قصته نظرإلي وفي عينه لمعان وهو يسألني " إليست قصة عظيمة ؟" قلت " بلى "