السبت، 29 أكتوبر 2011

جراحة في رأس رجل


صاحبنا يعاني من صداع مزمن في رأسه , يلم به شديدا في كل مرة يحتار فيما يختار , أيقول ما يريد أو ما يجب أن يقال وصاحبنا ذلك الرجل , بدأ حياته صادق الطوية ساذج الضن , يرى ما يصُنع ويسمع ما يقال فيجول في خاطره ألف سؤال , دفعت به لأستكناه جوابها من عمل عقله , فبات كثير الفكر والتأمل لعله يهتدي لخير حال .
ذهب صاحبنا إلى الطبيب يشكو علته التي أوجزها بقوله " يا دكتور لقد آلمّ بي هذا التناقض فبت مشتتاً بين ضمير يريد إصلاح و أنجاح أساسه عدل في النظر وصدق في القول وتغليب للحق , وهوى يريد كسب غير محدود يقوم على سطوة النفوذ وحجة القول ونباهة الحيلة , ولكل حجة وبرهان فضميري يستشهد بالقرآن وجبلة الله خلقه على حب الخير وإحقاق الحق , وهواي يسخر من تلك السذاجة ويدعي بأن الحياة صراع من أجل البقاء القوي فيها سيد مطاع على ما يقترف من رزايا , فسطوته تبدد كل ضن , وكليهما يجادل لحيازة معاني العدل والرحمة والحقيقة والصدق عندي , فالضمير يرى أن العدل شرع الله في الناس يحتكم له و به تستقيم أمورهم ما عليهم إلا الانقياد له لتكتمل سعادتهم , والرحمة هبة الله للقلوب بها يدفع الناس عن بعضهم الآم الدنيا , والحقيقة هي ذلك النور الذي به نرى ونميز فلا نتيه أو نتشتت , وأما الصدق فهو وصف حقيقة الأشياء والمعاني , ومع أن ما يبديه الضمير حري بالقبول والاحترام , إلا أن الهوى يسخر من ذلك ويعتبر الضمير حالم غير واقعي , فهو يدعي أن كل المعاني هي من اختراع الإنسان ولا معيارية لها فالعدل المطلق غير موجود ولا يمكن أن يحدث في واقع تختلف فيه عوامل التأثير في العلاقات بين الكائنات فالقوة والحاجة والحيلة وقلة الموارد المتوفرة بغير جهد كلها تجعل العدل نسبي وما أضل من ترميز العدل بالميزان فالميزان متجانس التكوين و المؤثر في كفتيه واحد هو قوة الجاذبية , أما في واقع التعاملات فالعوامل المؤثرة كثيرة وتوزيع تأثيرها يخضع لمفاهيم مسبقة على تقييمها , لذا كل يرى العدل من جانبه وبهذا يستقيم تعايش الناس فالحاكم يرى العدل في عقاب المعتدي وذلك يرى الظلم في عقابه والتجاوز عن غيره . لذا يكون العدل عدلاً بمقدار القدرة على إلزامه , أما الرحمة فهي دفع لشعور الخوف من ذات المصير, وتعتمد على واقع العلاقة بين الراحم والمرحوم ومدى القدرة على رفع العناء عند الراحم وهي ليست سوى مشاعر أنية تزول بزوال الموقف أو استدامته , فمن يرحم جريحاً يتألم ويسارع لنجدته هو نفسه الذي يتمشى بين مئات الجرحى من الأضداد في معركة المكتسبات , لذا على الإنسان الواعي إدراك أن الرحمة دلالة ضعف تدفع الإنسان للتخلي عن مكتسباته بجدارة الأخر على استعطافه , إما الحقيقة فهي ليست نور كما يدعي الضمير , وإنما هي ترجمة ذاتية لهوية الأشياء والمعاني بناء على مفاهيم مسبقة تأسس كل منها في ظروف مختلفة وبمشاعر مختلفة فمن يعتقد بدوران الأرض حول الشمس هو لم يلمس تلك الحقيقة بصفة مباشرة ولكنه أستشعرها من مقال مصدوق لديه , لذا فالحقيقة هي ما نقرر أنه حقيقة مقبولة , وأما الصدق فهو القول بما يطابق ما ندعي أنه الحقيقة ولا أحد غير الله يعلم ما في قرارة النفوس,  والتاريخ لنا شاهد بخلافات من شُهد لهم بالصدق في القول والنزاهة في الفعل والقصد في الهدف , فلو كان لديهم معيار موحد لما اختلفوا. ويكمل حجته بأن علي أنا أتباعه , فما لطالب العلا إلا أن يقتنص الفرص كما تقتنص الطرائد , شيمته  الوعي والحذر وسلاحه ما يناسب من ترسانة الغاية تبرر الوسيلة .
يا طبيبي العزيز ,لقد بات في قرارة نفسي رغبة في التخلص من هذا الشغب في ذهني فعزمت أمري ان اضع راسي على طاولة عملياتك فتفتحه وتبحث عن آي من الاثنين ذلك , الضمير المؤرق أو ذلك الهوى المزعج ,فمتى ضفرت بأي منهما فأنزعه نزع قوي مقتدر لعلي اخلص من ذلك الصداع المؤلم ."
فكر الطبيب واجمع ضنه بان الرجل غير سوي النفس  وعزم الأمر أن يسترسل في حواره لعله يهتدي لمكمن علتة النفسية , فبادر الطبيب صاحبنا بسؤال الحائر " ولكن إذا نزعنا الضمير فستكون أسير هوى مستبد ربما يوردك المهالك بجسارته وتهوره فتكون غولاً على الناس تفتك بهم وتستحل حرماتهم , وإذا نزعنا الهوى فستكون حبيس ضمير حذر يحسب الأمور بألف حساب فيصيرك ناسك للمعاني طوباوي النهج قليل الحيلة , فينتهي بك الأمر لقنوط وخمول ربما يدفع بك للفتك بنفسك ". و أومأ الطبيب بيديه للرجل كما لو كان يستحثه  الإجابة , حيث بداء له أنه احكم الحيرة لديه فبات الرجل في فناء الاعتراف ليكشف للطبيب مكامن نفسه المتوترة .
نظر الرجل للطبيب نظرة المستجمع قواه للمنازلة ثم اطرق ناظريه للأرض و بابتسامة مصطنعة بادر الطبيب " أتضني مجنون أو لدي خلة من وسواس ؟" وقبل أن يجيب الطبيب تابع و كأنه لا يريد إجابة " يا دكتور سأشرح لك مكمن علتي حتى لا تضيع الوقت في استفهام صحة عقلي " وسحب الرجل الكرسي في زاوية الغرفة وجلس قبالة الطبيب واخذ نفسا عميقا قبل أن يقول " سيدي الطبيب لا اعلم حالك ولكني اجزم أنك واحد من ثلاثة , فالناس على اختلاف مشاربهم ومللهم لا يملك واحدهم إلا أن يكون رهن جذاب هواه وضميره , فمنهم من يستسلم لديه الهوى للضمير فينقاد لسلوك تكسوه الطيبة والقناعة والعطاء والرحمة للكائنات بما فيها الإنسان ومنهم من يستسلم ضميره لهواه فيصبح شديد الطلب للمكاسب والمتع أناني الحيازة غايته سيادة ذاته على من سواه و أما الثالث فهو من توازن لديه الحوار بين الهوى والضمير وبات كل سلوك لديه نتيجة لتفاهم بين الاثنين , وهو ما كنت اطمح له , فكنت أعتزل في بعض أوقاتي وأترك الاثنين في حوار يعلو وينخفض , ولا أخفيك أنني كنت أعزز ذلك الحوار فأدعم كل منهم بمطالعة فكر الفلاسفة والزهاد وأحبار علوم الدين حتى بات كل منهم حصيف البيان قوي الحجة , ومع مرور الوقت شسع بينهم البين , وأصبح كل منهم يحتقر الأخر ويمقته وبات كل منهم يقتنص الفرص ليستبد بقراراتي , فأمسيت قليل التجانس في عقلي كثير التناقض في سلوكي , أستجلب لنفسي استغراب الآخرين من قلة ثباتي على نحو. يا سيدي الطبيب أتكل على الله وحضر منشارك فقد بت قاب قوسين أو أدنى من أن تنفصم ذاتي."
فضحك الطبيب , بعد أن تبين له أن علة صاحبنا ليست من اختصاصه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق