الجمعة، 28 أكتوبر 2011

خالي المتعجرف


من حديث طويل مع جاري في مقعد الطائرة ، قال لي عندما توفيت أمي لم يحضر خالي للعزاء ، على الرغم من أنه كان على علم بمرضها ووفاتها،و مع أنه خالي الأصغر لأمي وهي من تولى تربيته ورعايته بعد وفاة جدتي ، لم آري خالي منذ أن ترك العمل في شركة ارامكو منذ اكثر من عشر سنوات ، حيث أنشاء مزرعة صغيرة له في قرية جدي في القصيم ، لذا قررت أن أسافر للإطمئنان على صحته وأعزية بوفاة أمي ، فهو كان لها بمثابة الأبن ، وعندما بلغت القرية سألت صاحب محطة الوقود التي عند مدخل القرية عن طريق مزرعته ، فنظر لي بإستغراب وهو يتسأل "ماذا تريد من ذلك المخبول ؟" فقلت مستجدياً لطف الرجل " إنه خالي " عندها تبسم وهو يحاول الإعتذار عما سببه من إحراج لي " خالك رجل غريب الأطوار ، لا يحب اهل القرية و لا هم يحبونه ، ولا أحد يجروء على الحديث معه ، ينعت الناس بالغباء و الحماقة ويتكلم بكلام يغضب الله " كان حديث الرجل مقلقاً لي فلم آعهد خالي كذلك ، نعم هو حاد بطبعه وهو سبب عدم زواجه حيث كان يقول لأمي "إن أي إمرأة تحترم نفسها لاتستطيع العيش معي وأنا لاأريد إمرأة لاتحترم نفسها " وما عدا ذلك فهو رجل كريم وشهم وصاحب نكتة ، لذا لم أتقبل كلام الرجل وقلت في نفسي لربما كان على خصام مع خالي ، فتصنعت إبتسامة مجاملة للرجل وطلبت أن يدلني على طريق مزرعته فمهما يكن فهو خالي .

كان باب المزرعة مفتوح على مصراعيه فولجت بسيارتي ، وسرت في الطريق للمنزل الذي كان في أقصى المزرعة ،وعندما هممت بالترجل من السيارة وإذا بصوت منفعل يأتي من بعيد " هيه من أنت وماذا تريد ، وكيف تدخل من غير أن يؤذن لك " فترجلت من السيارة وسرت بإتجاه مصدر الصوت فأطل خالي من بين الأشجار مرتدياً قميص وبنطال قصير وأنا اتبسم مرحباً به ،  فتوقف غير بعيد وقال " ماذا تريد ؟" فوقفت مستغرباً تصرفه ، ومستدركاً أنه ربما لم يعرفني فقلت " انا خالد يا خالي !” فرد على متجهماًِ " أعلم أنك خالد وأعلم أن أمك قد ماتت فلماذا أنت هنا " لم أتمالك نفسي من هذا الجفاء فأجهشت بالبكاء وأنا اقول له " الا تشعر ببعض الحزن على من كانت ام لك ، اليس لديك مشاعر تجاه من فقد آمه وآتى ليعزيك أنت عوضاً عن تقبل العزاء منك ، الا تقدر تجشمي مشقة السفر للإطمئنان عليك " ضل واقفاً يستمع لنحيبي دون أن يبدي مايعبر عن تعاطف أو تقدير لمشاعري وعندما شعر أني جاهز لتقبل حديثه قال " انا لا احب الزيارات المفاجئة ، ولا احب الحزن والبكاء ، ولا احب تذكر الناس الذين تركتهم خلفي ، ولا احب أن يسأل آحد عني ، أو يفتقدني فأنالست مسلياً ، ولااحب أن اكون كذلك ، لذا لا تحملني جميلاً كونك تجشمت مشقة السفر ،فزيارتك لاتهمني ، وامك ماتت فلم تعد بحاجة لي ولا انا بحاجة لها ، وكونك ابن اختي لا يعني أني ملزم بمجاملتك ، لذا إن لم يكن لديك ما يفيد فعد من حيث أتيت " لم اتمالك نفسي من الغيض فقلت له " تباً لك من اخ او خال ، لقد كان صاحب محطة الوقود صادقاً فيما قال ، فأنت آحمق ومتغطرس ، ومع ذلك لن اعود ادراجي حتى اعرف لماذابت هكذا بعد أن كنت شخصاً آخر ؟ " تبسم متحدياً وكأني قد وقعت في مصيدته " امهه ، قابلت صاحب المحطة وقال إن خالك مجنون ، وجئت تستطلع ذلك ، وها أنت تآكدت أن خالك مجنون ،فإرحل ودع خالك المجنون لجنونه " فقلت له " لا لن آرحل حتى أعرف الحقيقة ، حقيقتك وحقيقة جنونك " فقال متحدياً مرة آخرى " وهل تعرف ما معنى الحقيقة حتى تستفهمها ؟" قلت " نعم " فقال مسترسلاً بتحديه " قل لي ماهي الحقيقة وما ذا تعني لك "  فقلت وقد باغتني السؤال "الحقيقة هي الثابت من العلم " فضحك ضحكة مصطنعة  وقال " أرأيت أنت لا تختلف عن البقية ،تنظرللمعاني  من منطلق أناني فتقرر أن الحقيقة هي الثابت بالنسبة لك ، فأنت من يقرر حقيقة الآشياء حولك لإن نظرك لها سطحي و كذلك معظم الناس وهو ما يجعلهم في صراع لأن كلٍٍ يرى الحق بجانبه ، وماهو حق في نظرك اليوم لايكون كذلك عندما تتغير مصالحك وحاجاتك ، لذا لاتتكلم عن الحقيقة وأنت لا تعي ماهي" فسارعته برد يناسب غروره " منك نستنير انا اليوم بين يديك ارشدني . ماهي الحقيقة ؟" عندها رمقني بعين حادة وهو يقول " آعلم آنك تستهزئي بي ، ولكن إعلم أنني ما تركت الناس إلا إتقاء حماقاتهم وإستخفافهم ، لإن ماأقوله يستلزم ذهن متقد وعقل ناقد وروح قلقة لتقبله ، ولا أعلم إن كنت أنت كذلك " شعرت بحرج حقيقي فما كان قصدي إلا إستدراج له حتى يلج في خرفاته كما قال لي صاحب المحطة ، لذا قلت له معتذراِ " ارجوك أن لا تؤاخذني بزلتي وإعدك أن استمع لك بعقل واعي وذهن صافي " اطرق قليلاً ثم قال "حسناً ،، أنظر لهذه النخلة مماهي مكونة منه ؟ " فقلت "جريد و جذع " فضحك وقال " لا لا ،،، أقصد مكوناتها الأدق " قلت " ماء ومركبات عضوية متعددة " قال " نعم هي كذلك ولكن ماهي المكونات الأدق من ذلك " فقلت " أتقصد العناصر الأولية كالكربون والاكسجين ؟ قال  " بل الأدق من ذلك " قلت " ليس هناك أدق من مكونات الذرات كالبروتون والنيوترون والألكترون " ابتسم إبتسامة المنتصر وقال " بل هناك ماهو ادق ، ولكن لنكتفي بما قلت ، لونظرت لهذه النخلة من حيث مكوناتها الدقيقة ، مالذي يفرقها عن محيطها من الهواء والماء والتراب  ؟" لم آفهم ما كان يرمي له لذا قلت " لم افهم ماذا تقصد " فقال " سأجيبك ، الواقع ان لاشي يفرقها عن محيطها من حيث المكونات الأساسية ، وما ميزها بالصورة التي تراها إلا إنتظام تلك المكونات بصورة مختلفة عما هو في محيطها ، لذا فالحقيقة التي ميزت النخلة عن محيطها تكمن في النظام الذي رتب المكونات بالصورة التي بدت لك فيها النخلة ، اذا الحقيقة هي النظام ، أما المكونات فهي متماثلة ولو تبعثرت بصورة عشوائية لما بات هناك شئ مميز ، فلو نزعنا النظام من المادة لنزعنا الوجود برمته وباتت المادة هباً منتشراً " وقبل أن ينهي كلامه نظر لي بعينين متسعتين وقال " ستقول ماهو النظام ؟ وانا اقول لك إن للنظام مكونات دقيقة تتكون من مكونات أدق حتى تصل لوحدة النظام الأدق والمتمثلة في الدائرة ، الأن اذاكنت كما قلت متقد الذهن واعي العقل فلن تسألني عن أي آمر بعد هذا " ثم تركني و اقفى  وهو يقول "عد من حيث أتيت ،ولا تعدني مرة آخرى فلا يروقك حديثي ولا يروقني جهلك  " كنت مصدوماً بحديث خالي وتجريديته الجافة ، ومستاء من تعاليه وتعجرفه ، ولكن في ذات الوقت كنت متشوقاً لسماع المزيد من تحليلاته ، فهو يرى العالم حوله بصورة مختلفة ، وبغض النظر إن كنت اتفق أو أختلف معه كان صاحب ذهن وقاد وروح قلقلة ، تركته وأنا عازم على أزوره في العام القادم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق