السبت، 29 أكتوبر 2011

صديقي والنفاق


عرفته منذ كنا زميلين في المدرسة  الثانوية , كان ذكياً سريع البديهة شغوف بأحراج الاخرين حين يصطاد منهم هفوة كلامية او غلطة لغوية , تترسم على تعابير وجهة صورة النشوة بالانتصار وهو يجادل ويكابد في دحر كل تبرير من الأخر ويصر على انتزاع الأعتراف بالخطاء واستجداءه الصفح والغفران , كان كثيرون من الزملاء يهابون صولته ومع ذلك كان يستحوذ على الأهتمام , وكثيرون منا يسعى لكسب وده , صحيح أننا كنا جميعاً نهاب مواجهاته تلك , ليس لأنه جريء متسلط ولكن لكونه عميق الثقافة واسع الآطلاع وشديد الملاحظة , وكانت مواجهته محسومة دائماً بذات النتيجة التي نخشاها جميعاً , حقيقة لم اكن من المقربين له ولم تحدث لي معه مواجهة سوى مرة واحدة عندما التقينا في أمسية لدى أحد الزملاء وتباينت مفاهيمنا حول حقيقة النفاق ومدى معذورية المنافق  , كان يرى أن النفاق محصلة ضعف المفهوم والاعتقاد لدى المنافق وهزال في المنظومة القيمية لديه مما يجعل المصلحة الآنية تسيطر عليه فيسلك سلوك ملتوي لتحقيقها من خلال التحذلق والمداهنة والكذب والانكار وهي سمات تجعل من الانسان عديم المصداقية مليص الأعتماد وهو ما يضر بالمجتمع ان تولى امر فيه مصالح للناس , وكنت أرى أن النفاق حالة ذهنية طارئة مرهونة بصراع الأنسان مع محيطه في سبيل حماية كيانه الذاتي و المعنوي تزول مع توفر ضمان حرية المعيشة والكسب والتعبير, ولأن نقاشنا كان ثقافي الطبيعة فقد تبارينا طويلاً في أظهار مخزننا الفكري والأطلاعي بالاستشهاد و التحليل الأمر الذي جعل كل منا يعجب بالاخر دون التصريح خوفاً من الاعتراف بالهزيمة , وباتت العلاقة بيننا بعد ذلك حذرة لا تتخطى مجاملات الزملاء حتى تركنا المدرسة وكل منا سار في مسلك اخر .وبعد ثلاثين سنة وعلى غير موعد التقي صاحبي في الطائرة وفي الكرسي المجاور لي ونحن عائدون للمملكة من لندن , لم اعرفه في البداية فقد تغير مظهرة الذي عهدته وكذلك انا بالنسبة له ولكن بعد ان تحدث اكثر من مرة مع المضيفة  استألفت الصوت ونبرة الحديث وكأن الزمان رجع بي إلى تلك الأيام الخوالي , فنظرت إليه وقلت هل انت أحمد فرمقني بنظرة سريعة كما عهدته وبملامح الأستغراب لبرهة قبل ان يقول من الأخ ؟ ثم بسرعة يستدرك قبل أن أجيب وبلهجة استفهامية "محمـــــد" وبعد أن حيينا بعضنا تحية تليق بما بان بيننا من السنين وكل منا أستفهم عن حال الأخر وما آلت إليه أحواله وما نتج له من عيال ومال , عدنا بالذكريات إلى صبانا ومماحكاتنا التي لم يكن لها هدف إلا إبراز التفوق على الأخر وبمضي رحلتنا الجوية استرجعنا ذلك الحوار القديم وكان هو البادئ فقال "يا ابوعبد الله أتذكر يوم تجادلت و إياك عن ماهية النفاق وهل للمنافق حق في أن ينافق " قلت " الله ! أتذكر حتى الآنخطاء.ل  "نعم " ثم سكت برهة وأطرق ليعود يستكمل حديثه " أنت تعلم أن والدي عندما توفي كنت لازلت في الجامعة  وترك عائلة قليلة الموارد , كنت الأمل لهم في تحسين معيشتهم بعد التخرج , والتحقت بالعمل في أحد الشركات الصناعية الجديدة المشتركة مع شركة أجنبية وحيث كان عدد السعوديين قليل في تلك الشركة فقد تشكلنا في صورة شلة نجتمع دورياً في منزل أحدنا وكانت تدور المناقشات حول مسائل سياسة واجتماعية وعملية وغيرها , وكما عهدتني كنت لازلت شغوفاً بمقارعة الأفكار لا أنضوي حتى أدحر الأخر , طبعاً فكرياً ,, وفي ضني أن ذلك لا يخلق للود قضية ! طبعاً كنت على خطاء .. حصل زميل لنا في الشلة على ترقية أصبح بها رئيساً لي , وكنت مسرورا في البداية لترقيته إلا أن ذلك لم يطل , فقد بات هذا الزميل الرئيس مصدر قلق لي فخلال اجتماعات الشلة كان يقاطعني بصورة يشعرني أنه الرئيس و يتصيد الفرص لانتقادي بصورة مهينة حتى تسرب إلى نفسي شعور بالهزيمة وكان مصدر ذلك الشعور قلقي على مستقبلي في الشركة ومستقبل معيشتي وخصوصاً إنني أعيل بالإضافة لعائلتي أسرتي الصغيرة لذا بت أتجرع تلك المرارة واستقصر في الحديث خشية التسكيت بل أني ابتدعت عن غير وعي سلوك أتكسب فيه رضي رئيسي و أتحين الفرص للاستشهاد بمقاله أو الثناء على حديثه دون أن يكون ذلك مطابقاً لما يختلج في ذهني " ويتوقف برهة  ثم يواصل " يا ابوعبدالله في ذات ليلة كنت عائدا بالسيارة من أحد تلك الاجتماعات بعد سهرة مليئة بنفاقي وتسطحي  , كنت ناقماً على نفسي أعاتبها على ضعفها وتهشم كبريائها وفي لحظة تستولي على صورة ذلك النقاش الذي دار بيننا و أستذكر رأي في المنافق فأرتجف سخطاً على نفسي وترتفع نبرة عتاب ذاتي بالشتم والتحقير لضعفي وسقوطي في هاوية النفاق , ثم أستدرك مقالك أن النفاق حالة ذهنية تزول بزوال مسببها " يتوقف عن الحديث و تشتد تعابير وجهه وتتطارد أنفاسه متسارعة  ويستطرد " يا أبو عبد الله كان مقالك هو المخرج , فلم ابلغ البيت إلا وقد عزمت على أن أحرر نفسي من ارتهانها لتلك الحاجة المذلة فكان أول ما فعلت في الصباح التالي ابلغ زوجتي بقراري الاستقالة من العمل والانتقال إلى الرياض , وكان ذلك أعظم قرار في حياتي " , لم استطع أن اخفي دهشتي من رواية صاحبي وتحول كل منا لفكر الأخر فعلى مر السنين مررت بعدد كبير من الناس لم يتعرضوا لضغوط  تملي عليهم النفاق بقدر ما احترفوا ذلك كوسيلة للاكتساب وتحقيق المأرب عن سابق تخطيط وترصد . لذا يبدوا أن النفاق ليس حالة ذهنية بل هو حالة وجدانية تحدث لدى الإنسان بمجرد أن تضعف منظومته القيمية ويبعثها للظهور تقلبات الحياة ومصالحها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق