السبت، 29 أكتوبر 2011

آداء كالطلقة



لطالما شغل الأداء الإنتاجي الفردي والجماعي بال الكثيرين, كيف يؤدونه وكيف يحسنونه وكيف يقيمونه فأمسى لدينا عشرات الطرق والوسائل لتحسين الأداء وأصبح هناك عشرات النظريات ومئات الأدوات الخاصة بقياس الأداء وتقييمه وما هذا إلا دليل على غموض مفهوم الأداء الإنتاجي بصورة عامة .
هناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الجهد والمثابرة لذا فهو مرتبط بالنتائج , وعلى ذلك يميل هذا الفريق لطرق كمي  , ويهتدي بالنظريات والجداول الإحصائية و يعتمد على القياس والمقارنة و ربط الخطط بالمتحقق , وهناك فريق يرى أن الأداء مبعثه الوجدان , لذا فهو مرتبط بالرغبة للتعلم والتغير إلى الأفضل لذا يعتمد هذا الفريق على تهيئة البيئة المناسبة للارتقاء بالمعرفة والمهارة , وكلا الفريقين يعتمد على وسائل وأساليب  ثبت بالتجربة تحقيقها انجازات تدعم إدعاء  كل منهما , وما برح الفريقين في جدال حول كليات وجزئيات مفاهيمهما وكغيري ممن افتتن بدراسة وفهم هذه الظاهرة الإنسانية والتي تسمى "الإحسان في العمل"  وجدت نفسي لفترة من الزمن متأرجحاُ بين المفهومين و كنت في كل مرة انتقل للعمل في مؤسسة جديدة , أواجه بمهمة وضع معايير لتحسين وقياس الأداء , وكان ذلك سهلاً من الناحية التنفيذية  فما يلزمني سوى اقتباس نموذج معد سلفاً من قبل مؤسسة أخرى وأجراء بعض التعديلات الطفيفة ثم اعتماده , إلا أن ذلك كان يمثل لي تحد فكري , فمهما أجريت من التعديلات , ولو بلغت تحوير كاملاً لتلك لأداة التقييم , إلا أنني أبيت غير مقتنع بجدوى تلك الأداة , ويشكل على تقبل ذلك , وخصوصاً عندما يحين موعد تقييم الأداء وارى الحيرة في وجوه المشرفين المسئولين عن تقييم مرؤوسيهم وتتناهى لي جدالات الموظفين حول العدالة في التقييم والضن بالنيات المبيتة  .
أن هذا التجاذب الذهني الذي عشته  ردحاً من الزمن , دفعني إلى القناعة بأن الظواهر الإنسانية من الصعب تنسيقها على نمط , فالعوامل المؤثرة في محصلة التفاعل الإنساني كثيرة ومختلفة الاتجاه و القوة لذا من الصعب الإلمام بكل تلك العوامل واتجاهاتها و شدة تأثيرها , وأصبحت من المشككين بجدوى أدوات قياس الأداء بالصور السائدة والتي تتمثل في تقييم فردي وبصيغة قضائية ,حيث يقوم المشرف بوضع نقاط قياسية لمعايير معدة سلفاً لسلوكيات و سمات الموظفين لا تتناسب مع طبيعة أعمالهم والعوامل المؤثرة في أدائهم بالضرورة , وتؤدي إلى قرارات مؤثرة في حياتهم المهنية .
لذا وبعد بحث جهيد لا مجال هنا لتفصيلها , اهتديت لنموذج يصف الأداء بالصورة التي يقرها فكري , وحيث أميل لمذهب النظم في التفكير فقد بات علي اعتماد منهج للأداء متكامل العناصر فمداخلاته تتمثل في الموارد المسخرة له من قدرات بشرية و أدوات و مواد و أموال ومعايير وقوانين المعالجة والتحوير والتغيير و صفة محددة للمنتجات والتبليغ المستمر عن حال طباق المستهدف بالحاصل . هذا النموذج الذي بات رهين مراجعاتي على مر السنين العشر الماضية , أجتاز شكوكي واختباراتي واقتنعت بجدواه و بات يمثل محور تفكيري حول تحسين الأداء وقياسه , ولزمني أن أعلنه على الأقل بالصيغة المختصرة التي تناسب وضعه في مقال .
أداء كالطلقة , هو تشبيه لما يمكن أن تحققه المؤسسة التي تتبنى هذا النموذج فهو يصور أداء المؤسسة كطلقة باتجاه هدف , يحثها القدرة والقوة الكامنة في انطلاقها وتخترق القوى الخارجية المواجهة لها لتصل للهدف بالدقة والسرعة المتحققة من تفاعل قدرتها و تحدياتها . هذا النموذج يتمثل في الشكل الموضح  ويقوم على عناصر أساسية هي :

 





تحديد الهدف , وهذا يتحقق بوضع رؤيا ورسالة للمؤسسة , فالأداء الإنتاجي موجه بطبيعته , وأن لم يحدد له هدف مكتوب فالهدف يتبلور في صورة ذهنية تسكن عقول الملاك و المدراء والعاملين , لذا يتفاعل كل منهم بما يستهدفه من طموحات وأمال و يكون هناك بالضرورة قاسم مشترك لتلك الطموحات والآمال , لذا يكون من الأجدى لو أعلن هذا القاسم المشترك وبات هو الهدف المشترك للجميع .
·      تحسين المدخلات , هناك تعبير يستخدمه متخصصي الحاسب الآلي للتعبير عن ارتهان صدق وجودة مخرجات المعالجة الحاسوبية بالمدخلات فيقولون " إذا ألقمت الحاسب اللآلي قمامة فستحصل عل قمامة مخرجات " وهذا ينطبق على جميع صيغ المعالجة بما فيها المعالجة البشرية فالأداء البشري بغض النظر عن مدى ضبط تفاعلة يضل مرهوناً بجودة المدخلات  من مرافق وموارد مادية ومحفزات معنوية .
·      البناء الاجتماعي للمكون البشري , بمقدار اختلاف الناس في توجهاتهم وأساليبهم ,إلا أنهم بحاجة لمعايير تضبط سلوكياتهم وتقنن تفاعلاتهم - حيث لا يعتدي القوي منهم على الضعيف - وتخلق لديهم شعور بالاطمئنان يرفع عنهم هاجس القلق على مصيرهم ,وكمحصلة لذلك يتحقق في أذهانهم صورة للعدالة تبعث في نفوسهم الرضا والحماس على تحسين واقع العمل . وينمو لديهم شعور بالانقيادية للتوجه الذي تختطه المؤسسة والالتزام بمنهجها .
·      البناء المنهجي للعمل , ويتمثل ذلك في وضع النظم و القوانين التي تحكم العملية الإنتاجية واستخدام الموارد بحيث تحقق الحدود المقبولة من حماية العاملين في صحتهم و معاشهم و حقوق المالكين في رعاية وصيانة ممتلكاتهم وتعظيم العائد النفعي من استخدام الموارد .
·      تحسين الكفاءة ويكون ذلك في شحذ همم العاملين على الاكتساب المعرف و بناء المهارة و تيسير وسائل وظروف التطوير الذاتي , ووضع سياسات و طرق لربط ذلك في الترقية والمكافأة , بحيث يجد العامل الفرصة في التقدم في العمل من خلال الجهد والوعي بدوره في العملية الإنتاجية وتكوين القدرة على النقد الذاتي و المعرفة بسبل تحسين الأداء الذاتي و ربط ذلك بالجهود الجماعية لفريق العمل .
·      إدارة البيئة المؤسسية . أن العمل ضمن أطر تنظيمية  و هيكلية تقسم فيها الأدوار و المهام و تتسلسل فيها التوجيهات يخلق واقع تعاملي بين العاملين يوظفون فيه قيمهم و سلوكياتهم ومفاهيمهم على نحو يحقق لهم القدر المقبول من الحرية الفردية و التعاون الجماعي في سبيل أنجاز الهدف المشترك وبقدر ما تختلف مشارب العاملين وأهدافهم بقدر ما تمثل تلك البيئة من تحد لكيان المؤسسة وقدرتها على الأداء الأمثل لذا لابد أن يتم صرف جهد أداري لبناء بيئة مؤسسية فاعلة في تنمية الأداء ومراقبة ما يطرأ على تلك البيئة من تغيرات .
·      تطوير نمط القيادة . في كل مجتمع من الناس لابد من وجود شخص أو أشخاص تناط بهم القدرة التوجيهية لذلك المجتمع بحيث تتحقق تطلعات المجتمع إلى معيشة أفضل وحماية أفضل بفضل القدرات الكامنة في ذلك المجتمع , لذا تكون المهارة القيادية في القدرة على التعرف واستخلاص القدرات الفردية والجماعية للمجتمع وتوظيفها بصورة تضافرية لتحقق الهدف المنشود وبعث الحماس والثقة في المجتمع على الالتزام بتلك التوجهات , وبقدر ما يمارس القادة ذلك بتقانة عالية بقدر ما تتحقق الجودة في تحقيق الهدف , لذا لابد من تولية أمر القيادة وتطورها اهتمام بالغ.
·      التنسيق وخلق التوازن . قد يكون من أدق النشاطات المؤسسية هو تنسيق التوازن بين مكونات العملية الإنتاجية بحيث يتم توظيف القدر المناسب من الموارد وضبط تناغم تضافرها لتصبح أشبه ما تكون بجوقة من العازفين المنتجين لمقطوعة موسيقية تشنف الأذان , والتحدي في تنسيق التوازن المؤسسي يكمن في عدم وضوحه كمهمة منفردة فهو نتاج لوعي و إلمام بمدى تناسب مكونات الإنتاج المؤسسي والأهداف و البيئة الخارجية للمؤسسة المتمثلة في العملاء وتوقعاتهم والمنافسين وخططهم والجهات التنظيمية وبيئة النشاط العام بصورة شاملة .
أن أي مؤسسة تروم أن ترتقي بأدائها إلى أفاق جديدة يضمن لها التميز والقدرة على تعظيم عائدها النفعي مطالبة الآن أكثر من ذي قبل بتبني هذا النموذج أو أخر يحقق نفس النتائج ويلم بجميع العوامل المؤثرة في العملية الإنتاجية. هذا النموذج تم استعراضه باقتضاب مراعاة لضيق المساحة فلم يتم التطرق للعملية التطويرية الإجرائية ولا شرح مسهب لفلسفة تقييم وتقويم الأداء والتي سيتم الإسهاب فيها في كتابات لاحقه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق